امرأة ضائعة
لم تعد تهمني الحياة بكل ما فيها.. لا زوجي، ولا أولادي، ولا بيتي، ولا أي شيء.. فليذهب كل شيء إلى الجحيم.
زوجي يذهب إلى العمل من الصباح الباكر، ولا يعود إلا في ساعة متأخرة من الليل، وكذلك الأولاد.. طوال هذه الفترة يكون الملل قد تمكن مني وأحكم إغلاقه تمامًا.
ماذا أفعل؟! وقد فعلت كل شيء حتى مللت الحياة كلها.. نظافة البيت وترتيبه، زيارة أي أحد من الجيران أو الأهل، الجلوس على شاطئ البحر القريب من البيت، متابعة التلفاز... إلخ. فلم تعد لي أي رغبة في شيء، فقد استفحل الروتين اليومي فأصبحت الحياة والموت سواء..!
كل ما أفعله هو أن أترك جسدي جثة هامدة على فراشي، وإذا نهضت من نومي أشعر بغاية الكسل والخمول، فأعود إلى النوم مجددًا.. هكذا أقضي يومي كله في الاستسلام للنوم، فليس أمامي سواه.
يعود زوجي من العمل متأخرًا فيجد أنني لم أعدّ له أي طعام، وهذا ما كان يثير غضبه وانفعاله بشدة، فيقسو عليّ بالضرب والسباب، وقد يحث الأولاد على فعل ذلك.
ووجد زوجي حلًا مناسبًا، فقدم الدعوة لأشقائه على طعام الغداء في يوم عطلته الأسبوعية من العمل، فقد ظن أن ما فعله سوف يجعلني أتحرر من قيد الملل المحكم، ولكن عبثًا بلا جدوى، فلم تفلح محاولته في ذلك أبدًا.
فقد ينتظر يوم عطلته أن أتحرر من قيدي، وأغتسل، وأرتدي ملابس مناسبة، وأستعمل المكياج والعطور، ويجد البيت في قمة النظافة والترتيب، وتفوح منه روائح زكية، وإضاءات خافتة تبهر العين..
ولكن هيهات، فقد غاب عن باله أن يوم عطلته الأسبوعية تتجمع فيه ألوان الكسل والخمول، فأحتضنهما كأنني أخاف أن تتركني هي الأخرى كما تركتني الحياة بكل ما فيها مجملًا وتفصيلًا.
احتار زوجي في أمري.. أحيانًا يشعر أنني فقدت عقلي تمامًا، فيهددني كلما عصيت أمره أن يودعني إحدى المستشفيات الخاصة لعلاج مثل هذه الحالات، وأحيانًا يشعر أنني في قمة العقل، وأن كل ما أفعله ما هو إلا عناد ظاهر وتحدٍّ سافر..!
أما عن نفسي، فلست أعرف هل فقدت عقلي فعلًا، أم أنني في كامل قواي العقلية.. أو كلاهما معًا..!
ضاق زوجي ذرعًا بي، فقد أخبره بعض الجيران أنهم وجدوا أسفل المنزل بعض الأشياء ملقاة: ملابس جديدة ممزقة، ومأكولات، وعملات ورقية ممزقة... إلخ.
والحق يُقال: أنا نفسي لا أعرف لماذا أفعل كل هذا، وكيف، ومتى..!
أسوأ ما وجدته من زوجي مقارنته لي بامرأة بعينها، أو بأي امرأة يشاهدها في التلفاز: كم هو الفرق ما بين القبح والجمال..!
هكذا كل النساء أفضل مني في كل شيء، وقد تجاهل زوجي أي صفة طيبة فيّ، كأنني الوحيدة من بين النساء التي تنفرد بالعيوب والمآخذ دون أي صفة حسنة تُذكر، والأخريات حوريات من الجنة لا عيب فيهن!
لعله نسي أو تناسى أيامًا كان يسعد فيها بالجلوس إليّ، ويصفني بالجمال الهادئ، وأنني هدية من السماء، و... إلخ.
ربما زوجي على حق فيما يقوله، ولكن ما ذنبي في طول فترة غيابه عن البيت؟ لو كان يعمل على فترتين، فيحضر إلى البيت بينهما، ربما تغيّرت أمور كثيرة، ووجد مني المرأة التي يتمناها ويرغب فيها.
كلما سخر زوجي مني نظرت إلى المرآة، فأرى كم انطفأت شمعتي، ولم تعد لي أي حيوية أو نشاط أو إقبال على الحياة، فأصبحت كالميت الحي.
لا أعرف ماذا أصابني، فضعفت قواي، وفتر إحساسي بالحياة، ولم تعد لي رغبة في العيش أبدًا، ولم يعد هناك ما يشغل بالي.
لا أخفي سرًّا أن سخرية زوجي مني، ومقارنته بغيري، أحد الأسباب البارزة التي أفقدتني الاهتمام بنفسي أو ببيتي أو به هو.. فلو حدثني بكلمة طيبة، ولو كذبًا، لعله ساعدني على إعادة الروح إلى نفسي ونهضت من كبوتي..!
انقطعت صلتي بالناس، فلم أعد أرغب في زيارة أو استقبال أي أحد. فلم أعد أبالي بمن يطرق بابي أو يتصل هاتفيًا، حتى لا تأتي من تحدّثني عن زوجها وعن استقبالها له عند عودته، وعن ما تقوم به من نظافة البيت وترتيبه و... إلخ.
منذ بضعة أيام مرض زوجي، ونقل إلى غرفة العناية المركزة في إحدى المستشفيات، ولكني مكثت في بيتي.. لم يشغلني مرضه، فليمت بسلام، فماذا قدم لي لكي أبكي مرضه أو موته..!
لعله إذا رحل إلى السماء أفرغ لكبوتي دون أن ينغصها عليّ،
وبالفعل مات الرجل.
فإن كان قد مات اليوم، فقد سبقته منذ سنوات...
مع تحياتي
(عبد الفتاح حمودة)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق