الموسيقى وتأثيرها على فطرة الإنسان: تجديد خطاب حضاري إنساني يحمل رسالة الإسلام
كتبت: دنيا صاحب – العراق
يمكن إعادة الفطرة الإنسانية السليمة للإنسان من خلال سماع الموسيقى، إذ إن لها أثرًا مباشرًا في كيمياء الروح؛ فهي ترمّم صندوق مشاعره، وتنمّي أحاسيسه، وتجمعها نحو الفكرة التي ينطلق منها الملحن والعازف. ومن هنا تبرز أهمية أن يُحسن الإنسان المثقف والواعي اختيار النمط الموسيقي في التأليف والعزف، سواء على الآلات الشرقية أو الغربية شريطة أن تحمل الألحان قيم حضارتنا الإسلامية ومبادئها الأخلاقية الرفيعة.
وحسب مفهومي عن الموسيقى: "المنقوص في الكلام لا يكتمل إلا بالألحان". فهي كيان شامل من ترددات طاقة المشاعر للمؤلف والعازف، تتجسد صورًا لحنية ملهمة للروح، وتؤثر في تفكير الإنسان بحسب ترددات موجاتها، لتصبح لغة رمزية في الوجود، حيث لا تكتمل لوحة الحياة الفنية إلا بعناصر تعزز من قيمة الإنسان في هذا العالم الرمزي.
إن وسائل التعبير لها ارتباط وثيق بمهجة روح الإنسان خصوصًا ما يتجلى منها في ابتكار الفنون والغناء والعزف وحتى في الدوران الصوفي مع الكون، وتوظَّف في المواجيد والموشحات والإنشاد الديني والمواويل عند المتصوفة لتكون وسيلة لإعادة بناء مجتمع صحي وسليم، بعيدًا عن الأمراض النفسية التي تؤثر في الجسد والروح، والتي تنشأ غالبًا من التلوث بالأيديولوجيات والعقائد الفاسدة التي لا أصل لها في كتاب الله القرآن الكريم، ولم يُنزِل الله بها من سلطان فهو العلم الإلهي الشامل لنظام الكون .
ومن منظور علم الحقيقة والشريعة الإسلامية، يمكن للموسيقى أن تكون وسيلة لبناء المجتمعات بطاقات البشرية الصالحة (وتجسيد الهوية الثقافية للشعوب)، فهي عامل للإحياء الروحي والفكري على حد سواء.»
شرط أن تأتي في قالب نقي وهادئ،
الكلاسيكي هي نوع من الموسيقى التي تتبع تقاليد فنية ثقافية معينة للشعوب ومتطورة عبر العصور، وتتميز بالتنظيم الدقيق للألحان والإيقاعات، واهتمامها بالهارموني (تناغم الأصوات)، والمواضيع الموسيقية المعقدة، والبنية الموسيقية المتكاملة.
ذات طابع روحاني تأملي ملهم خالٍ من الشوائب المفسدة للنفوس والارواح والنغمات الدخيلة المشوَّهة بثقافات بدائية زائلة لا تمتّ إلى هويتنا الحضارية والثقافية بصلة. «ولهذا يصبح من الضروري الحذر من تصدير الأفكار المنحرفة عبر مختلف وسائل التعبير: الكتابة، وجميع الفنون، والموسيقى، والمسرح، والأفلام، والمسلسلات التي تُعرض على شاشات التلفزيون، إضافةً إلى الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي، لأنها تمثل البيئة الأساسية لصناعة الحياة وتشكيل المجتمعات، وهي الرافد الذي تستقي منه الأجيال الناشئة قيمها ومبادئها.»
«نحن اليوم في أمسّ الحاجة إلى نظام حضاري متقدّم يعيد الاعتبار للثقافة الروحية، ويجدد أصول هويتنا الثقافية العربية، ويُرسّخ جذورها في بلداننا التي أنهكتها الحروب وسفك الدماء، حتى تلاشت القيم والأخلاق التي أسسها النبي محمد ﷺ منذ أكثر من أربعة عشر قرنًا، في حقبة مثّلت نموذجًا مثاليًا لتجديد الخطاب الإنساني والحضاري للعالم آنذاك.»
أما في زمننا الحاضر، فإن تجديد الخطاب الإنساني والحضاري ينبغي أن يتماشى مع معطيات الحداثة، مستلهمًا من يوم بعثة النبي محمد ﷺ، أبا الأحرار الذي بعثه الله رحمةً للعالمين. «وهذا التجديد ينطلق من معاني قوله تعالى: ﴿وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ﴾ (الضحى: 11)، أي أن يعيش الإنسان في عصره محافظًا على أصله المتجذّر في هوية الإسلام؛ النظام الذي ينبغي أن يُطبَّق كمنهج ودستور عالمي، إذ إن الإسلام لا يخص أمة أو ديانة واحدة، بل هو نظام شامل يضمّ نوعين من المخلوقات: الإنس والجن، وينسجم مع مبادئ القيم الإنسانية والأخلاقية التي كتبها الله وضمنها في كتابه الكريم القرآن، ساعيًا إلى أن يجعل الإنسان في وعي كامل دائم، بعيدًا عن الغفلة والانقياد وراء زيغ أهواء النفس والشهوات الدنيئة والأفكار المصطنعة. وهذه هي الحقيقة التي غفل عنها الناس.»
«فالموسيقى، والكلمة الطيبة، والرسم، والخط، والهندسة، والنحت، وسائر الفنون والأعمال الفنية والإبداعية التي ينجزها الإنسان، تُعدّ جميعها أعمالًا صالحة تسهم في تحقيق التوازن النفسي والأخلاقي والتكويني في الحياة، لأنها تبث طاقات إيجابية تشع نورًا، بما يضمن استقرار ميزان العدالة الإلهية في تكوين المخلوقات وفق الرؤية الكونية، فلا بد أن يتعلم الإنسان فنون التعبير عن أفكاره ومشاعره، التي تتجسد من خلالها واقع الأحداث والأمور في حياته.»
«وتعاليم دين الإسلام السمحاء في شأن الفنون النافعة تهدف إلى شفاء النفوس من الأمراض النفسية المستعصية، وتليين القلوب القاسية، وتزكية الأرواح لتصبح خلاقة ومبدعة، بحيث تتحول الطاقات السلبية إلى إيجابية. وهذا هو جوهر التربية الإسلامية؛ إذ أن الفنون وكل ما يقوم به الفرد، وأهمها كتابة القصص والروايات والشعر والموسيقى، والرسم، والنحت والحِرَف اليدوية والصناعية، وغيرها من الإبداعات، تُعدّ أدوات للتعبير عن الذات وبناء التوازن النفسي والروحي.
ما يصدر عن الإنسان من أفكار ومشاعر يتجسّد في أقواله وأفعاله، وينعكس على هيئة أحداث وأمور في حياته، ويصنع من خلالها واقعه على هذه الأرض، التي هي من صنع الله سبحانه وتعالى، الملهم للفنانين والمبدعين في أفكارهم وإبداعاتهم باستخدام الطاقات الروحية.
وتنبعث هذه الطاقة من قدرة الله وإرادته، وتصل إلى الجسد بأمره منذ خلقه في رحم أمه فتظل الروح متصلة بخالقها اتصالًا مباشرًا، كما يتغذى الطفل من أمه بواسطة الحبل السري.
"وبتأمل الإنسان للحياة والوجود، تنعكس عليه صور الحياة وما تحمله من تبعات على هيئة أفكار تلهمه للابتكار والإبداع في أعماله، بإيعاز من الخالق سبحانه وتعالى، في صورة خفية، محجوبة بحاجز هلامي شفاف من نور لا يُرى بالعين المجردة، ولا يُرفع إلا بأمر الله، ليتمكن من إدراك حقيقة وجود الخالق وصانع الأكوان من خلال طاقة الاستشعار بالحواس الباطنية. ويبدأ الإنسان بالإحساس بالمدد الإلهي العظيم، الذي يتجلى في حياته بحسب نوعية أفكاره وطبيعة مشاعره، سواء كانت صافية وسليمة أو ملوثة ومريضة.
وتؤكد الآية المباركة من سورة الإسراء، رقم 20، على هذا العطاء الإلهي العام:
﴿كُلًّا نُّمِدُّ هَٰؤُلَاءِ وَهَٰؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ ۚ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾
وهذه الأسرار تندرج ضمن علوم التكوين وعلم الغيب في كتاب الله الكريم، كما ورد ذكر الروح وصفاتها وطبيعتها في الآية المباركة:
﴿وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ۖ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا﴾ (الإسراء: 85)
التأويل العرفاني:
تُظهر الآية أن الروح سرٌّ إلهي لا يختص به العقل البشري إلا قدر يسير، فهي من "أمر ربي"، وتنبع من حكمة الخالق وإرادته المباشرة. وتشير إلى أن الروح جوهر الإنسان الأسمى، المرتبط بالخالق اتصالًا مباشرًا، وأن معرفتها الحقيقية تتجاوز حدود العلم البشري، فلا يُدرك كنهها إلا بالنور الإلهي، والفهم بسعة مدارك العقل، وتطهير القلب وزكاة النفس وطهارة الروح. بذلك تصبح رمزًا للسر المقدس الأعظم في الحياة، ونقطة اللقاء بين الإنسان وربّه، متصلة بطاقة الإلهام الإلهي الذي يعينه ويُلهمه على البحث والتجريب وابتكار الصنعة والعمل، إذ إن الإنسان لا يعمل منفردًا أو منفصلاً عن المصدر الرئيسي والمُمول للطاقة العظمى والخلاقة في الحياة، وهو الإله الجبار، ونحو ذلك تظل روح الإنسان متصلة بخالقه.
وتقوم التربية الإسلامية على عقيدة سمحاء أساسها العشق الإلهي، فمتى امتلأ قلب الفرد بحب الله أشرق فيه النور، وأخرجه من الظلمات إلى النور فتتحول حياته من الشقاء إلى السعادة الحقيقية الأبدية.»

ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق