الجمعة، 1 مارس 2024

حدثت الرواية فقالت ـــــــــ هادية آمنة


 حدثت الرواية فقالت

خرجت عائشة من المطبخ وهي تلوك عجينة الحلوى الساخنة , تنفخ فيها كلّما احترقت أصابعها, قرفصت قبالة مليكة,ضربتها بكفّها على باطن فخذها.
- استعنا على الشقاء بالله ..افتح ياسمسم.
بنغمة مضيفة الطيران قالت سوسن
- مرحبا بكم في مغارة علي بابا
ضربتها مليكة بوسادة قائلة
تبّا لك أيتها المضيفة السابقة
انتبهت مريم لقول مليكة , فحدّقت فيهنّ وفي عيونها سؤال ,تطوعت عائشة كعادتها للحديث عن تجارب غيرها.
عائشة على أعتاب الثلاثين,عَلِمت ما تفوقه به زميلاتها من حسن, فوجدت في داخلها غيرة لا تُراعي في إخفائها سبيلا , كفاها أن تُروّح عن نفسها بالسخرية ,تجد لذّة في البحث عن مناقص غيرها ,تتندّرُ بتضخيمها والسخرية منها في نكات وكنيات تختلقها لِتُصبح لَصيقة بصاحبها,
مُديرهم سي النوري لقصره الشديد تُسمّيه " الطّابو ".مليكة لسمنتها وضخامة صدرها تُكنّيها "بشركة الألبان" عبدو "الشاعر الولهان "وعن نفسها تقول" أنا عيشوشة ملكة الجمال سيّدة الحِسان" ,عائشة مرحة بالفطرة , وقد تنحرف أحيانا للحقد والبغضاء عند تحاوُم الذكورعلى زميلاتها دونها. لا يُضارعها أحد في التمويه عمّا بداخلها, تتظاهر بعدم الإكتراث ,تزعق على الأحزان داخلها بضحكاتها المُجلجلة , تختلق سُبل الظفر بصحبة الجميع, تدأب على التخطيط والمشاركة في مغامراتهنّ , تكتم أسرارهنّ , تدأب على خدمتهنّ بحصر حواجبهن وتنقية الشعر الزائد من أجسامهنّ.
عركت عائشة العجينة بين اصابعها فلانت, أحكمت فردها على باطن الفخذ المُرَبرب ثمّ جذبت فوحوحت مليكة , بعدها مرّرت يدها على بشرتها مشيرة إلى شعيرات عنيدة ,اقتلعتها عائشة في امتعاض ماسحة عرق إجهادها قائلة
ـ سوسن بنت سيّدي المعتمد كانت أيّام العزّ تلبس ذلك الزيّ الجميل الذي رُسمت عليه الغزالة.
أحقا كنتِ مضيفة طيران يا سوسن ؟
- نعم يامريم اشتغلتُ بالخطوط الجويّة التونسيّة لفترة ثمّ اضطررت لترك عملي بعد إصابتي في ظهري جرّاء ارتجاج عنيف للطائرة
دفعت عائشة مليكة ضاحكة.
- لقد أرحتك من أدغالك يامليكة
ثمّ رمت العجينة في ماء الجفنة الصغيرة , تأملت أصابعها المحمرة المحترقة ، تراجعت إلى الوراء زاحفة بعجيزتها على الجليز, استندت على ضلع الكنبة الخشبيّ ,أدارت يدها على كاحل مريم تحسّست ربلتها ومنها صعدت تحت الثوب المخمليّ تَنعَمُ بملمس النعومة المنعشة ليدها المُلتهبة.
بيض مقشور يا بنات لا يحتاج إلى مهارتي
ثمّ واصلت الحديث بصوتها المبحوح
- زميلتنا سوسن , بنت سيّدينا المعتمد بعدما نزلت من الطائرة اشتغلت موظّفة بجامعة الدوّل العربيّة ومن هناك يعني من جامعة الدوّل العربيّة طارت إلى دولة شقيقة وصديقة لتدرّس الفرنسيّة لأميرة سعوديّة .
نفثت سوسن دخان سيجارتها سارحة في حلوّ تلك الأيّام ومرّها ,أومأت برأسها إلى مريم المستغربة مؤكدة صحّة ما جادت به عائشة من أخبارعنها.
التفاصيل في الحلقة القادمة
هكذا قالت عائشة وهي تغلق أزرار ميدعتها
*********
وقف سي النوري وسط الساحة يُجهد أوداجه بتصفير مُطوّل .تسابق الأطفال, وقفوا طوابير أمام أقسامهم , منتظرين معلّميهم .
ضاحكات من تعليقات عائشة الساخرة من مديرهم سي " الطابو" رنت إليهنّ صابرة ثمّ أشاحت بوجهها الشاحب , ازدادت التصاقا بالجدار المختفي وراء أشجار الحديقة ,تعثرت في ثوبها الريفيّ الطويل وميدعتها الفضفاضة فبدت أكثر قصرا ونحافة وهي تشقّ الساحة نحو قسم السنة الثالثة .حيث انتظرها المدير, رافعا صوته منهالا عليها بالتقريع والتأنيب لتأخّرها ثمّ انصرف أمام فصل مريم استقبلها بترحاب آمرا الصبيّة بتوخّي النظام في وقفة عسكرية أحكم تدريبهم عليها, وقفة يقومون بها عند حضورمفتّش الوزارة أو أحد مسؤولي الحزب الحرّ الدستوري التونسي .
طالت مصافحته لها فجذبت مريم يدها ,قدّم لها مجموعة من الكتب اجتهد في البحث عنها في خزانته .
- هذه كتبي البيداغوجيّة الخاصة بي. مهمّتي مساعدتك.ثمّ رنا إلى وجهها الباسم متحدّثا في إطناب عن مراحل تقديم درس لغة .
تململ طابور التلاميذ الوحيد في الساحة المُقفرة.محاولا التزام الصمت رغم إلحاح الفطرة بعدم جدواها.
ازداد حنق صابرة على الفوارق التي أرهصتها وقزّمتها والفقروالذلّ الذي سكن عائلتها وعشّش في,أسرتها الساكنة على تخوم الحدود الليبية في سفح جبل " آقري" والدها كان راعي أغنام , اتخذ من مغاورقمّة الجبل الفسيحة مقيلا لها ,كان عارفا بالشعاب والممرّات فصار دليلا لرجال المقاومة ثمّ ما فتئ أن انتسب إلى جيش التحرير الوطني الموالي لزعيمهم صالح بن يوسف عددهم ما جاوز ثلاثة آلاف رجل.
بعد إعلان استقلال البلاد في أواخر شهر مارس من سنة 1956. حاول رُسُل بورقيبة إقناعهم بتسليم السلاح فكان ردّهم الرفض ,فالاستقلال الذي تلوّح به فرنسا منقوص وكاذب ,أراضي الجنوب مازالت تحت سلطتهم والثكنات عامرة بجنودهم , كان الردّ على العصيان عنيفا تحالفت عليهم قوّتان القوّة العسكريّة الفرنسيّة المرابطة في البلاد وقوّة من الحكومة التونسّة الفتيّة .
أيام قليلة لا غير, دارت فيها رحى تلك المعركة الغير متكافئة , هاجمتهم ثلاثة كتائب فرنسيّة وفرقة مدفعيّة ودبّابات مسنودة بسرب من الطائرات يتقدمهم في هجومهم بنو جلدتهم من التونسيين , قوات المخزن والقوميّة والحرس المتجوّل والصباحيّة .
عمّ الخراب واشتدّ التنكيل بالأسرى والقتلى الذين تركوا للضباع والجوارح فقد مُنع إكرامهم بالدفن تنكيلا بهم وبذويهم
رغم قسوة زوجة خالها عليها إلا أن صابرة استطاعت النجاح في دراستها بفضل تحفيز خالها العامل في منجم الفسفاط بجبل الوصيف بالرديف, من النساء تزوج خالها بثلاثة ولم ينجب , يبدو أنه كان عقيما , رُزقت أمّها بتوأم من البنات , لفّت الرضيعة ومدّتها لزوجة أخيها الوحيد الذي كان يكبرها بعقد من الزمن .
الضوء ساطع هذه الأمسيّة يخترق مساحات حياتها المظلمة, بهرتها التفاصيل في مريم ,الثوب ,الحذاء والسيارة الحمراء ,لوحة متكاملة أتعبت عيونها الغائرة في صفحة وجهها البائس النّحيل .
وقف عبد الوهاب أمام قسمه لاعنا ساخطا على سلطان الجمال الذي خَبِرَ سطوته خاصة إذا اقترن مع سعة الحال شأنه شأن الزميلة الجديدة مريم.
دخل قسم صابرة فانتفضت واقفة من مكتبها مستغربة ,أجال بصره في قسمها.
ـ لك ذوق بديع ياصابرة , قسمك جميل.
أدهشتها عبارات الثناء من شاب وسيم كانت تلمحه بين الحسان,لا تكلّف بينه وبينهنّ.
ما أراد الحديث عن الإهانة ولا على المعاملة الغير عادلة التي استنفرت شفقته عليها
ـ أعتقدُ أن هذه السنة هي سنة الترسيم بالنسبة لك, أستطيع مساعدتك إن رغبت في ذلك
انعقد لسانها ورفعت رأسها إليه فشهد في عيونها ذلك الانكسار الذي طالما استفزّ أفكاره وأقواله وكتاباته.
هادية آمنة
تونس

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق