الأحد، 10 مارس 2024

قراءة في قصيدة تحت براثن الوجع للشاعرة التونسية سليمى السرايري بقلم الناقد حاتم بوبكر - تونس

 قراءة في قصيدة تحت براثن الوجع

للشاعرة التونسية سليمى السرايري

بقلم الناقد حاتم بوبكر - تونس

في العنونة:

العنوان تحديد وضع مأزقي وإحراجي كساه انزياح دلالي صار معه الوجع بما هو عناء وكدر وكرب جامع للجسدي والروحي، له براثن بمعنى مخالب السّبع الضّاري، دلالة مجازية منحتها للوجع كشفت عن وضعية الشاعرة / الإنسان/ الوطن /الأمّة المُربكة والقصية. بدت الشاعرة تنسج معاناة او بدت كطير ثُبّتت فيه مخالب نسر/ مخالب الوجع وأخذت منه مأخذا عظيما حدّ الانكسار فهل أوفت النثرية بمضامين العنونة؟ أقطعت الشاعرة مع كلّ تجليات الأتراكسيا؟ أتجسّد سيزيف العبثي أم هي ابيميثيوسية تفتّش في قعر جرّة باندورا عن الروح المتبقية او عن البقية الباقية في الجرة عن الأمل حيث الفرح والانتشاء والامتلاء؟ هل وقعت الشاعرة في الدور، حيث بدأت النثرية بالوجع وانتهت به -أم أن الوجع الذي انتهت به النثرية مختلف من حيث الكيف والنوع، فبعد أن كان جاثيا صار متحرّكا، لعلّ تفكيك النثرية كفيل بإجلاء مقاصد القصيد وأبعاده.

تستهل النثرية بتحديد وضع الأنا وموقفها من انتظار امتدّ مواسم بمعنى طال وهنا مبالغة لتعيّين حقيقة معاناتها من الانتظار، انتظار تنظر إليه كانتظار أي على حقيقته دون تزويق أو مساحيق وكأني بها تدرك مُسبقا كنهه وما ينتظرها من وجع ورغم ذلك مازالت محمّلة ببعض الانفتاحات التي تترقب ولوج الامل أو النور، إذن انتظار موسوم بالترقب غير انه مغموس في الوجع أو في غمغمات وجع تكابده وحيدة، وجع على غيرية غادرت وظلت محبوسة في رسم علّق على الجدار وكأني بالشاعرة تشكو وجعا من فقد عزيز أو قريب أو وطن أو أمة، لم يبق من الغائب سوى رسم على الحائط حضور في ذاكرة الشاعرة رغم ان هذه الذاكرة في ديناميكية مستمرة إذ تقول عنها أنها تنمو باستمرار.

هنا تمنح شاعرتنا صبغة انتروبومورفية على الذاكرة لتؤكد حيويتها وإستمراريتها وكأني بها تقر بأنها شبه كرة ثلج كلّما تدحرجت إلا وازدادت أحمالا وأثقالا، ذاكرة نامية ولكنها مثقلة بما حوته، بغرقها بمعنى بمعاناتها وكأنها شاهد على فعل الغيرية في الانية كما أن قلْبها لم يعد يحلم بما سيأتي بل اكتفى بما حواه أو بما كان من أحلام، أو حلم مثقوب. هنا تلوح جمالية الانزياحات الدلالالية وبالتالي قدرة الشاعرة على تأثيث الصور وعلى قدّ الرموز والإيغال في تزويقها ومنحها صبغة الجدّة الاستيطيقية فكانت كمن ترسم أو كمن تقدّ ثوب الحياة. هنا يلوح اجتماع الذوق وصناعة اللغة وابتكار الرمز، اذن قلب مثقوب يهرب والخذلان يسكنه من غيرية أو من وجود آثم وهو يمتطي عربات ريح معطوبة ترمي هنا وهناك، لا تملك قدرة على الحركة أو السكون، تمضي إلى حيث تمضي والشاعرة لا تعرف إلى أين تمضي فقط الأمر الثابت أن الوجع سكِر وخلد فيها فبات ينهش سكونها، يمزّق القلب ويسكن الذاكرة.

في الشطر الثالث تُخاتلك الشاعرة سليمى السرايري بصورة شعرية مغرقة في الجمال والغرابة حيث تستحضر صورة آلات لغة الروح تكف الشاعرة بمقتضاه على أن تكون عازفة للقيثارة او الربابة، منتجة للأنغام وتصير "مفاتيح الشجن تبكيها على سلم موسيقي". هنا يحضر الحقل الدلالي الموسيقي كالمفاتيح والسلم لا ليجسد نغما موسيقيا وإنما ليكون كشفا عن شجن الشاعرة، عن أوجاعها وإرباكاتها ورغم هذه الصورة القاتمة وهذا الكدر يسكن الشاعرة عزم وإصرار على الصمود والاستقامة مؤكدة أن المارّين أو أن الغيرية القريبة أو لعلها البعيدة التي جاءت بثقلها أو بسيوفها من الفراغ أي خارج أوقات الامتلاء، او في اوقات الوهن والضعف وولجت إلى عمق الأنا بدت أو ظلت لديها غريبة أو هاذية وبالتالي تؤكد الشاعرة امتلاكها لاستقلاليتها وقدرتها على الإغفال والاستغفار أو الإهمال ذلك أنها مازالت تتشوف الأمل وتأمل في النور أو في بالونات مضيئة لتخبرنا انها مازالت طفلة تناوئ الكبر وتتابع خيالات وافتراضات حسبتها حقيقة، تترصد ملائكة السماء حيث الضياء والأمل والنور، ملائكة تقول عنها أنها تأتي آخر الليل.

في الشطر الخامس تتبجح صورة مستمدة من حقل الفرح والبهجة تحضر فيها مفاهيم فنية مستمدة من آلات الروح، آلات لم تعد معزوفة بل صارت باكية ، مفتاح السلم صار يتكلم بشجن الشاعرة وكأن القيثارة باتت تصغي إليها وتترجم احساساتها ومشاعرها لتبلغ الصورة أوج الجمال والتخيل ورغم هذا الشجن والوجع تقر الشاعرة بأن الغيرية سواء البعيدة أو القريبة التي فتحت بسيوفها حديقتها السرية ولجت من أمكنة الفراغ واستوطنت في أزمنة الفراغ مرت وظلت الشاعرة تحافظ على استقامتها بمعنى أن غياب الغيرية لم يفعل في الشاعرة إذ ظلت صامدة ومازالت "تقرض" او قادرة على إنارة السماء في ليلة حاكة وكأني بها تقول أني ما زلت كالقمر رغم المحن، ما زلت شبه الوعي رغم محدوديته أضيء السواد المنتشي بل بدت لي طفلة حالمة بملائكة السماء التي كنا نتخيلها ونحن أطفالا صغارا، ملائكة ظنناها تسبح وترقبنا ومنها تُضاء السماء... الشاعرة باتت مصدرا للإضاءة والنور رغم ما تعانيه من وجع. إنها تؤكد إصرارها على المُضي رغم ذاكرتها المنكوبة أو لعلّها تقول إني نفذت إلى جرة باندورا وسرقت الروح المتبقية فيها أي الأمل وأضأت الوجود بها وكسوته سكينة وفرحا.

تصوغ الشاعرة فيما بعد صورة جمالية مبهرة إذ تجعل للصمت مجرة ممتدة وبعيدة ربما هي تشيدها في أعمق أعماقها فتجعل للغياب وطنا قصيا في عمقها مستحضرة صورة الوطن الدامع لتتماثل هنا والوطن وتغادر الذاتية نحو الموضوعية وهو ما صادفته في مستوى تغير الضمائر من الأنا إلى النحن وكأن الوضعية القصية صارت جامعة للكل، غيابا صاهلا يرتق الفتوق يصير معها أسطورة تنبعث من الرماد او من الوجع، تنتشل نفسها من براثن الوجع كحضارة تحيا من "صواري" او من رماد سابقتها، كوطن يحيا من غرقه أو من ثورة أبقته بقايا. هنا يمّحي الخط الفاصل بين الذاتي والموضوعي، بين الأنا والغير، بين الذات والوطن، التقاء في الآمال ولعل الشاعرة عثرت على الروح المتبقية في جرة باندورا أي الأمل فأنقذتها من عبثية الوجود وأكسبتها روحا غير روح سيزيف، ربما كانت روح ميارى التي تراءت لغيلان السد.

في الأسطر الموالية تكشف عن غموض يلف الكينونة يشبه الجنون، غموضا يشعل قناديل أحلامنا الطفولية تلك التي احتواها الشعر وظل يستحضرها مثيرا للماضي، ماضي خلد في الذاكرة وأمسى كليل نحرته الكوابيس والأوجاع والآلام. ليل كسته المتناقضات فكان تراوحا بين العدم والحياة بين الأخذ والعطاء بين اليبس والخصوبة وكأنثى تتمنى النور، وضفائر الحياة والانبعاث للارتواء والامتلاء ولكن تتبدى في المقطع قبل الأخير لام النفي وكأنها تعارض الأماني وتقف حاجزا أمام الامتلاء إذ تنفي الشاعرة بمقتضاها أحلامها أو أحلام طفولتها أو شِعرها مسجدة لصورة ظلام لم يعد فيه شمع راقص ولا نور ولا ماء منه تنبت الحياة بعد الجفاف بل تقر بأن الأفكار احتجبت خلف غابات تشابكت وقتلت معها الغاية وربما الرغبة في الحياة وكل أمل متسائلة في آخر المطاف عن الإنسان الذي تلهّى عن الإنساني أو عن الغير الذي لم يعد يُلقي بالا لغيره ومعاناته ومآسيه لكن لا يجب ان نفهم من هذا أن الشاعرة مغرقة في السوداوية واليأس والبؤس إذ تظل الفكرة مطلبها وضوء ملائكة الطفولة غايتها، طفولة لا تمّحي ذلك الإنسان طفل على الدوام وكذلك الإنسانية، إنها لا تهرم أبدا قادرة على منح السلام والضياء والسكينة، على تدوير الوجع في عجل

فتظفر بالمعنى وتتخطى اللاّمعنى فتتجاوزه أملا في استرجاع طفولة الأنا او طفولة الإنساني او طفولة وطن حيث السعادة والفرح وهكذا يكون وجع البداية الجاثم غير وجع النهاية المُدوّر ويكون التغاير وهنا تفلت الشاعرة من الوقوع في الدور مما يجعل قياسها منطقيا.

بالفعل صافحت نصا تحلّى بفسيفساء الانزياح والمجاز والاستعارة فكنت بمحضر حفلة رمزية صاحبتها الموسيقى ورافقها الرسم بالكلمات. -

الأديب والناقد حاتم بوبكر تونس

~~~~~~~~~~~~&~~~~~~~~~~~~~

القصيدة

تحت براثن الوجع

ا.............................ا

أنا لم أجمّل يوما مواسم الانتظار،

ولا أغمضتْ شبابيكي على الشمس

كلّ ما هنالك أنّي حُملتُ وحدي في غمغمات الوجع

إلى بعض الذين غادروا مأسورين في رسم على الجدار

لي ذاكرة تنمو كلّ يوم

تنوء بما خلّفوه من غرق

لي قلب ينام في حلم مثقوب

يفرّ مخذولا فوق عربات الريح المعطوبة.

أنا لا أعزف القيثارة أو الرّبابة

وإنّما تبكيني مفاتيحُ الشّجن على سلّم موسيقيّ.

لا أنحني للذين جاؤوا بسيوفهم من بوّابات الفراغ

مشحونين بالغرابة والهذيان

ما زلت هنا أُقرض السماء بالونات مضيئة

أسمّيها ملائكةَ أخرِ الليل.

سأعلّق صرختي بمجرّة الصمت البعيدة

وأبتكر حنجرة للوطن الدامع …للغياب

كي يصيح. ويرتق الأرض بصهيل

يعبر أسطورة تنهض من خلف الصواري

ثمّة غموض يفوح رهبة

ثمّة أرق يسافر بنا بكلّ الجنون

ويحمل أحلامنا المؤجّلة َ طائراتٍ ورقية ً

تتصوّف فوق ظلال طويلة ِالعزلة

كانت يوما تحية لراية العبور

لا شعرَ يهجر معنـًى للطفولة

يمتحن قدرتنا على الذكرى

فالليل مسجّـًى على أصابعَ تتيمّم بالكوابيس

يرسم حلكته على مرمر الوقيعة

ويخبّئ الطوفان على زاوية المبكى

ضفائرَ ضوء تطلّ من خلف الورود

شفاهً تلثم التوابيت.

لا شمع ترقص تيجانُه في الجهة المقابلة

لا ماء يغمر حفرا داكنة في تراب الحقيقة

لا فكرة تتراءى بعريها خلف لاجئة الغايات

كلُّ المدائن أعدّت أرصفتها لطوابير المبعدين

تحتجز الصبايا العائدات منْ خلف المرايا

حجارةً هُيّئت مِدفأةً للخطيئة

أهناك من يلمح موتنا راكضا في هذا الضيق؟ ...

يحتضن دمنا وفكرةً نادمة تعودُ بلا مهلةٍ

لتمنحَ الضوْءَ لملائكةٍ صغارٍ

يلعبون بهالاتِ الكواكبِ

فيدورُ الوجعُ على عجلٍ

ونعبرُ ذاكَ الصراطْ.

-

من الديوان الثاني للشاعرة التونسية سليمى السرايري

"صمتٌ...كصلواتٍ مفقودةٍ"



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق