الجمعة، 1 سبتمبر 2023

حدثت الرواية على لسان الكاتبة هادية آمنة

 حدثت الرواية على لسان هادية آمنة فقالت......


حقول صفراء على إمتداد البصر, يتصاعد منها وهج لامع, يتأمّله في نشوة المُقبل على حياة جديدة طالما حَلُم بها, مبتعدا ببصره عن جوف القاطرة المزدحمة بالرجال والأطفال والبعض من النساء المختبئات تحت طيّات ألحفتهن الباهتة,دجاجات مغلولات القوائم تطل من تحت المقاعد المشروخة تقوق محتجّة فتجيبها بمأمأة معزاة هزيلة مخنوقة الرقبة بين يدي طفلة منكوشة الشعر, كبيرة العينين, أخرجت رأسها ورأس معزتها من نافذة العربة تتأمّل الوهاد والفضاء الراكض أمامها إلى الخلف ,متحديّة ضربات وقرصات أمّها لها لتُرغمها على الجلوس في حجرها .

رغم التصاقه بالسكّة تأرجح القطار في حركاته الصاعدة الهابطة مرجرجا الركّاب القابعين على أرضه و على مدارج أبوابه المفتوحة على مصراعيها, قزقزقت مفاصله وعوى حين لمح السائق كتلتان تتصارعان بين القضبان الحديديّة المتوازيّة الإمتداد .

 حمار حَرِن وفتى غضّ يلسعه بعصاه الرقيقة ليُبعده عن موت محتوم .

بعد يأس من عناد الدابة أطلق الشاب ساقيه إلى الريح مبتعدا غير مدرك للحمار اللاحق به مفزوعا من الوحش الحديديّ الذي كاد أن يفرمه . 

فرمل السائق فترنحت العربات متشبثة بالسكة, حينها أطلق وابلا من الشتائم على الشاب وحماره حاشرا بعض الكلمات من معجم الوقاحة الفرنسيّ الذي اكتسبه من رؤسائه في الشغل .

دلف الكمسريّ ببدلته الضيّقة و سرواله القصير ووجهه المتجهم مناديّا .

ـ تِسْكرَة ….تِسْكرَة ….تِسْكرَة . 

اشرأبت نحوه الرقاب وجِلة كلما اقترب من أحدهم .

أحسّ أحمد ولد التليلي بدوار يغزو رأسه من الغوغاء المحيطة به خاصة من الجالسين أمامه تمنى لو يرغماهما على الصمت لتفاهة ما يلوكانه من أحاديث في صوت هادر فلم يفعل متمالكا نفسه متحمّلا . 

تنفّس الصعداء عندما رآهما يلملمان قفافهما ويدفعان بالمرأة وببنتها ومعزاتها أمامهما .تماوجت غفور العربة في تدافع وصياح منها النازل ومنها الصاعد نأى ببصره متفرسا الجانب الآخر من المحطّة, ركّاب الدرجة الأولى.يرفلون في أثواب أنيقة يوزعون الابتسامات على الحسناوات الأوروبيات المتأففات في قرف وتعال من مناظر الفقر والقذارة الغير بعيدة عنهن

ـ أوووف من هؤلاء "الأنِْدِجين " كلمة أطلقوها على السكّان الأصليين لكلّ الأراضي التي استعمروها .

هؤلاء هم السبب في تجاربه المُتجهمة لذلك آثر أن لا تنفتح مشاعره على جمالهن .

تمتم في غيض 

ـ حتما ستغادرون هذه الأرض دون أسف منّا .

قذف القطار بما في جوفه على رصيف آخر محطّة .

رفع أحمد رأسه إلى السماء فوجدها رماديّة ,داعبت وجهه نسمة بحريّة أنعشته بعد عناء ,استنشق هواء العاصمة في همّة المستجدّ في مضمار الحياة .التفت محملقا في المارة, في كلّ الإتجاهات, باحثا عن صديق قريبه .

تتسع حدقتاه كلّما رأى وجها في إختلاجاته بَحْثٌ , عندما يتمّ اللقاء يخبو أمله وينتابه يأس , اختلطت عليه وجوه السابلة ,كلّها تقريبا بنفس المواصفات,الطول والنحافة والطربوش الأرجواني على الرأس .

 يستند على جدار مقرفصا منتظرا ,تطلّع إلى المحطّة فوجدها مقفرة 

" ليس مجديّا أن أبقى هكذا يجب أن أجد طريقي بنفسي "

همّ بالنهوض بعدما إكتشف أنّه هناك من يراقبه توجّس خيفة وتعوذ من شرّ الطريق ووقف في همّة .بيده حقيبة ملابسه وبالأخرى قفاف السّعف.

لمح هامة فارعة الطول تعدو نحوه ,سمع أنفاسها اللاهثة قبل أن يتبيّن ملامح صاحبها .

    

ـ أحمد ولد التليلي 

مثل يد مُدّت إلى غريق انتشله الصوت من انتظار طال لزمن خاله دهرا قَفُرَ معه المكان وداهمته هواجس الظلام بأهدابها السميكة .

تقدّم الرجل نحوه معانقا معتذرا عن تأخره .

ـ والله ياسيد أحمد عزمت على الحضور إلى المحطّة لإنتظارك قبل موعد وصول القطار ,الله يسامح من كان سببا في تأخيري ,الجندرمة أولاد الكلب,تفتيش وتعطيل وإهانات .المهمّ سامحني سامحني…. سي الصادق الخنّوسي صديقي أوصاني بك في رسائله . 

  مَرْحَبا ..مَرْحبا برائحة أحبابنا وطفق يسأل عن أخبار سي الصادق في جُمل مكرّرة المعنى بصيّغ مختلفة . 

ثمّ أحنى رقبته المديدة والتقط القفاف عن الشاب المُمَانع .سارا يتحسسان طريقهما على هدى الأنوار الباهتة من المطاعم و المقاهي الساهرة في شارع البحريّة الفرنسيّة متحاشين العسكر الماشين في طوابير, قارعين الأرض بأحذيتهم الغليظة في إيقاع موزون لإشعار السكارى في الحانات و الراقصات في الملاهي بالطمأنينة والأمن من المخرّبين من الأهالي المتطفلين على هذه القطعة الأوروبية المتاخمة للمدينة العتيقة.

 باب فاصل بين عوالم مختلفة ,انفتح على ساحة فسيحة شبه دائريّة تفرّع عنها طريقان رئيسيان متوازيان يصل إحداها باب البحر بجامع الزيتونة سلكاه في صمت .

 كلّ الدكاكين والمحلّات مغلقة ,مرقا تحت رواق مسقوف بأقبيّة برميليّة تعكس ضوء القمر الباهت ومنها وقفا في فضاء تلألأت فوقه النجوم دون عازل ,وقفا يستردان أنفاسهما أمام واجهة جامع الزيتونة أحسّ أحمد بنشوة عارمة وهو ينظر في إجلال إلى الصرح العظيم ببابه العريض العالي المتوسّط لرواق مستطيل مرتفع ,انفلقت من بين أقواسه أنوار القناديل المتراقصة .

ردّد حسّونة عبارات الترحاب ثمّ عرج ناحية اليسار في ممرّ طويل منحدر تفرّعت عنه أنهج ملتويّة موصولة بغيرها ,غاصا في إحداها كانت أبواب المنازل على الجانبين غير واضحة الملامح مصطفة غير متقابلة .

جاسوا في زقاق أجبرهم على السير الواحد تلو الآخر لشدّة ضيقه وعلوّ حيطانه الحجريّة التي زادته عتمة ووحشة إنتهى المسلك بهم إلى باب هو المنفتح الوحيد في هذه الطريق المسدودة . تشوّق أحمد لمعرفة شكل المبنى الذي يسعى إليه شوقه لمدّ جسده المنهك بعد سفر استغرق من الزمن يوما بأكمله .

طرق حسونة الباب بمطرقة نحاسيّة على شكل يد مقبوضة فانزاح مقزقزا مصرصرا منفتحا على نور فانوس . سُلّط على الوجهين .ناظرا إليهما العملاق الماثل أمامهما بعيون متّقدة متحفّزة قائلا بصوت أجش كهزيم الرعد 

هو أنت يا حسّونة ؟ من معك ؟

ـ هذا صاحبي. هو طالب علم .جاء من الجنوب من قفصة . فسح لهما الطريق ثمّ جلس على الدكّة الإسفلتيّة مقهقها دافعا الباب برجله الطويلة فطرطق وإنغلق .مرّر إبهامه على شاربه الكثيف متذكّرا شقاوة الفتوّة .

ـ بلاد الصناديد والرجال والله يا حسونة أعزّ الناس . بعدها مدّ يده فأودع حسونة فيها قطعة نقديّة عجّل محروس بدسّها تحت وسادة تبدو لصلابتها كصخرة .نفذا من السقيفة المُتربة المستطيلة إلى فناء الوكالة المتوسط الاتساع رُبطت على جوانب هديم به أحمرة كما رُكنت عربات يد خشبيّة على البعض منها خُضروغلال . رغم أن الوكالة هي بؤرة للولدان المشردين واللصوص والشحاذين و المكدودين   

فلا أحد يجرؤ على السطوّ على ممتلكات غيره فيها. فمحروس هو الحارس والقاضي والجلاد لا رحمة لقبضته ولا حدود لطول ذراعه إن حاول أحدهم الفرار والاختفاء في تعاريج وتجاويف المدينة الكثيرة .

جملة ما فتئَ يكرّرها.ملوحا بقبضته خانقا الهواء بجُمع يده صارا على أسنانه الصفراء .

" والله اللّي يعمل عملة خائبة مشومة .هنا عندي في الوكالة لن يفلت منّي ولو تخبّأ في كرش الحوت .

يسرقون يعبثون بأجسادهم كما يحلو لهم خارجها لكن داخلها فهناك حدود لا يجب تجاوزها "

هادية آمنة 

تونس 



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق