الأربعاء، 2 أغسطس 2023

الرهان بقلم الكاتب نايف ثامر مراد

 الرهان 

نايف ثامر مراد

صفحات من طفولته تمر على خاطره أحيانا كشريط سينمي فيتذكرها ويشعر بالحنين إلى ذلك الزمان الغابر والى تلك الجيرة الرائعة.يتذكر أنه كان يبتهج عندما يستصحبه والده إلى ربعة عمه دهام حيث الدفء الذي تبثه المنقلة المتوهجة بالفحم وعليها أبريق الشاي والقهوة وأحاديث رجال السلف وهم يسردون حكاياتهم وذكرياتهم.كانت الربعة,مربعة كبيرة جميلة.لا تشبه صرايفنا الطينية مثل قصور المدينة.جدرانها بيضاء مجصصة وسقفها من جذع النخيل وأرضيتها مفروشة بالبلاط النظيف.صريفة أهله بائسة تنحت جدرانها الطينية عليهم ترابا.أما سقفها الرث.فسعفات وحصران بالية مملوءة دخانا.لا تحميهم من المطر ولا تصمد أمام الريح أذا هبت تجعل كل حصيرة في ناحية, فتبقى الأسرة مكشوفة كأنها في العراء وبعد أن تهدأ الطبيعة يقوم والده بإعادة السعف والحصران إلى مكانهما ويثبتهما بقليل من الطين.أعتاد والده أن يخرج ليلا إلى ربعة عمو دهام فيخرج معه. يمشي في تلك الدربونة الترابية الطويلة يكبو غير مرة وتجرح قدماه الصغيرتان العاريتان. وفجأة تنبح الكلاب عليهما فيجفل مرعوبا ويلوذ بأبيه.يمر على خاطره اللوكس الذي ينير الربعة بذلك الضوء الباهر.يتذكر أنه موضوع على صندوق خشبي أسود.كان تبهجه رؤية الفراشات ذوات الأجنحة الملونة.يحومن حول اللوكس يقبض عليهن غير هياب ويضعهن في جيب دشداشته البازة المقلمة وعندما ينام في الليل مع أمه وأبيه في الحوش على الدكة الطينية وتحت الناموسية. تراه أمه في ضوء القمر,يخرج الفراشات من جيبه تسأله منكرة: - ما هذه الحشرات؟ ألا تخشى أن تلدغك؟

- فراشاتي أصطدهن وهن يحومن حول لوكس عمي دهام

فتخرجه من الناموسية وتفرغ جيبه من الفراشات والحشرات على الرغم من أن والده يحذره قبل الخروج من البيت: أن يبتعد عن اللوكس ولا يصطاد الحشرات الطائرة فيهز رأسه موافقا.دخل خلف والده إلى الربعة.نهض الرجال إلى والده لمصافحته. قبلّه الرجال.شعر بخشونة لحاهم وشواربهم على خده الأبيض الترف

- يشبه جده مراد..الله يحفظه!! 

نظر إلى الرجل الذي يحدث والده.كان أحدب الظهر بدينا وقد أبيض فيه كل شيء يبتسم والده مزهوا.يرى عن بعد الفراشات حول اللوكس يشعر بالرغبة في القيام والقبض عليهن.يتململ.يد قوية تعصر يده تخمد حركته

- كان جده شجاعا يبدو لي أن فيه سمات من جده مراد

أنتبه الرجال إلى الرجل الطاعن في السن..ثمة باشا ورئيس وزراء سابق لديه أرض كبيرة تجاور أراضينا في علي الغربي والتي نعيش فيها وعاشوا أجدادنا فيها منذ مئات سنين وكان لديه وكيل فظ يشرف على زراعتها.شرع بقطع ماء النهر عن أراضينا وأستأثر بماء النهر وحده.أوشكت زروعنا أن تذوي وحيواناتنا أن تنفق.ذهبنا إليه متوسلين لم يحفل بنا.ذهب جده ليلا إلى الوكيل وجده قرب النهر يرصد الأهالي الأجلاف كما يسمينا.أمسك بالوكيل من حزامه ورفعه ودخل به النهر ثم غطسه في النهر حتى مرغه في الطين وعندما أنتفض تحت يديه رفع يده عنه فأخرج رأسه جاحظ العينين ونشق ثم سحب نفسا عميقا وأخذ يلوح بيديه مستغيثا.لم يحفل بصراخه وغطسه مرة أخرى خفنا أن يغرقه ويموت وينتقم منا الباشا.أسرعنا إليه ودفعناه عنه وما أن شعر بالنجاة أطلق ساقيه للريح.كسر جده الثلمة القديمة في النهر وجرى الماء من جديد إلى أراضينا العطشى .

كان يصغي إلى الشيخ مزهوا وكان والده يمسح على شعر رأسه الأشقر قال الشيخ :

-امتحنوه.

قال عمه دهام :- هذه قامتي يركزها في آخر صريفة مهجورة

شعر بالخيلاء والقوة تملآن أهابه:- هيه..ماذا تقول؟

أطرق لحظات ثم رفع رأسه إلى عمه دهام وهز رأسه موافقا :

- صريفة الأعمى بائع الصمون سابقا؟

- عفارم!! .

أمسك القامة بيديه وتهيأ

-عندما تثبت شجاعتك وتعود سأجمع لك من كل رجل عشرة فلوس.

نظر إلى عمه دهام وتوهج قلبه فرحا ..فكر: سيكون مبلغا كبيرا لا يحلم به سيباهي به أترابه الصبية وسيشرب أمامهم الكوكا كولا.يتذكر أنه رأى الكولا عند العطار أول مرة واشترى ابن البزاز جهاد زجاجة منها وكان يتمطق وهو يشرب أمامه بمهل. كان ينظر إليه بحسرة.هرع إلى أمه وطلب منها 15فلسا ليشتري الكولا مثل ابن جهاد.قلبت أمه جيبها الخاوي وأقسمت له أن البيت كله لا يوجد فيه عانة قالت:

- أصبر حتى يعود والدك بعد شهر من أحدى المحافظات

ظل يبكي عدة ساعات حتى غلبه التعب ونام وهو يحلم بتلك الكولا اللعينة

- هيه ..تخاف؟

أنتبه إلى عمه دهام واستحيا منه. شد يده على القامة.أسرع بالخروج. نفحه هواء بارد ما زال الليل في أوله وسع خطواته أوغل بعيدا غمره الظلام. يسمع كلاب تنبح. جفل وجف قلبه.وقف.التفت إلى الوراء لم ير شيئا.هيه ؟ تخاف ؟أرجع.لماذا تتورط!!؟خسئت ظنناك كجدك!! هكذا كانت الأفكار تدور في رأسه. يحاول أن يتخلص من مخاوفه. مشى بحذر مر على صرايف مهجورة فكر: لماذا لا القيها في أحدى هذه الصرايف القريبة ؟لكن..لكن أنهم اختاروا صريفة الأعمى البعيدة.يشعر بخور في قدميه.القامة ثقيلة في يديه المرتجفتين .يتذكر اللص الذي قبض عليه في سلفهم يسرق قبل عدة أشهر.أعترف أنه يختبئ في أحدى هذه الصرايف المهجورة حتى ينتصف الليل.ثم يتسلل إلى بيوتهم.لماذا تخاطر بنفسك؟ أرمها من خلف الجدار الطيني وأخلص من المشكلة؟ لا تعرف ماذا ينتظرك في داخل تلك الصريفة اللعينة؟ قد تجده متربصا لك فيخنقك حتى أذا صرخت فلن يسمعك أحد.تتأخر عنهم. يستبد بهم الخوف عليك.يهرعون إلى الصريفة يجدون اللص قد خنقك وأماتك. تراك أمك ممددا في التراب ميتا تعول وتخمش خديها وتشق ثوبها:- يمه أوليدي..يمه اوليدي أي شيء أحوجك إلى الخرابة في هذا الليل البهيم..يمه؟.. حظي؟.تتوجه إلى أبيك صارخة :استرحت؟ قتلته؟ تقامر بطفلك؟.شعر بنفسه يبكي بصمت ويستغيث بأمه: أمي ألحقيني..سيخنقني اللص.أنتبه إلى نفسه على صوت نقيق للضفادع. مسح عينيه من الدمع.بلغ الصريفة.أرهف سمعه.يده مشدودة إلى القامة.يفاجئه نور القمر الباهر وقد أفلت من الغيوم. تند عنه آهة ارتياح.يرى ظله يرافقه وقف في الباب ينصت في خوف.تجرأ مّد رأسه داخل الصريفة التي غمرها ضوء القمر.أطمأن.تسلل داخلها بحذر.رفع القامة وبكل قوة ركزها.قفل راجعا وفي صدره يختلط الفرح بالخوف. وسع خطواته وكان يتلفت إلى الوراء بين الفينة والفينة.وكلما دنا من الربعة خف روعه حتى بلغها وجد الرجال واقفين في الباب يتطلعون إليه بانبهار.أحتضنه الواحد تلو الآخر.بعد دقائق وصل رجل منهم وبيده القامة.سأله الرجال:

- هيه؟

- كنت خلفه بمسافة حتى لا يراني.لم يخف.دخل الصريفة وثبت القامة وسطها.

جمع عمه دهام النقود له.كان لا يثبت في مكانه من الفرح.فكان بين الفينة والفينة يتحسس النقود في جيبه بفرح غامر. يتمنى لو أن والده يعود إلى البيت الآن كي ترى أمه نقوده الكثيرة.أخذ يفكر في الحلويات التي سيشتريها من العطار غدا..

نشرت القصة في جريدة التآخي

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق