السبت، 25 فبراير 2023

تأملات في مبنى ومعنى الإنسان بقلم الأستاذ : شكري بن محمّد السلطاني

 تأملات في مبنى ومعنى الإنسان

للإنسان قالب جثماني يتّصل بالدّنيا للقيام بالوظائف الحياتيّة وتحقيق وظائفه الأساسيّة من تغذيّة وإتّصال ببيئته والتّكاثر ،ييسّر وجوده وتوازنه وبقاءه بالدّنيا إلى حين من الدهر.
قالب جثماني يتغذّى ويتزوّد من التّراب ويستمدّ من الطبيعة ضرورياته من هواء وحرارة ......فهو يتّصل بالدّنيا حركة وسيرا وسعيّا تحكُمه قوانين فيزيائيّة وكيميائيّة صارمة محدّدة مكيّفة لوجوده كبشر حيّ يسعى ، يتأثر بعطبه وتضرّره .فسلامة الجسد من العناوين البارزة لحياة متوازنة لا يشوبها إضرار وضرر.
يستهدف الموت بالأساس القالب الجثماني ويُعدمه ويُلغيه لتنتفي الطاقة الشّاحنة لبطارية وجوده ليُرديه جثّة هامدة لا حراك ولا إحساس .
وله قالب معنويّ يتأثّر وجوبا بالأحاسيس والعواطف والوجدان ويتمثّل في نفسه وروحه ، إذ هو متّصلا أصلا بحقائق الوجود ومعانيها ،فهو يتزوّد ويتغذّى من معاني وحقائق الكون والوجود بما يُفيد الإنسان كينونة وصيرورة فلعقله الفّكر والتأمّل والتفكّر ولقلبه الشّعور ولروحه الإستئناس باللاهوت والسّكون ولنفسه السّكينة ، ولكن هيهات أن ينال الإنسان السعادة الأبديّة وهو لم يفارق منطقة الراحة والرفاهيّة ولم يتجاوز العادّة ولم يعزم على رُشده ولم يركب مطايا العزم والكدح والعمل بجد وصبر ومثابرة.
إنّ القالب المعنوي هويّة الإنسان وقيمته المعنويّة الراقيّة الباقيّة بعد زوال جسده الفاني الذّي مآله ومثواه التّراب ، أمّا قوامه ودعامته فهو متأتٍّ من قالبه المعنوي الذي يستمدّ وجوده وبقاءه وسرمديته من اللّه العزيز الحكيم ، فلا عبرة وإعتبار بالقالب الجثماني الفاني المتغيّر المتحوّل مع الزّمن والفاني بحلول الموت.
فالقالب الجثماني وسيلة لتحقيق غاية وليس قصد وهدف ومرمى للبصر والبصيرة للإلتفات والتعلّق بظواهر المظاهر وشكلانيّة وزخارف الحياة ،فالجسد دابّة الإنسان ومركبته لتيسير وتكييف حياته الدنيويّة ،فالحقيقة الماديّة البشريّة من الأكيد أنّها تُكسب الإنسان دربة وخبرة فهما ووعيّا وإدراكا بمعاني الحياة العميقة فتُمكّنه من معرفة ذاته وجودا ظاهراتي منعكس وهي من أساسيات وجوده ولا تغاضي ونكران للدلالة والقيمة الماديّة لوجود البشر في الدّنيا ولذلك فليعتني الإنسان بصحّته ولا يشغل نفسه بمتطلبات رفاهية الجسد وشهواته فحسبه تحصيل ضرورياته وما يبقيه حيّا دون إفراط ولا تفريط لأن الحقيقة الماديّة ثابتة في الإنسان ولا يمكن أن يكون لامبالي غير مهتم.
أمّا قالبه المعنوي فمصدره ومردّه خالق العباد والكون والوجود رب العالمين.
وعلى كلّ صاحّ وحاذق وكيّس وفطن أن يُرجع الودائع إلى صاحبها إذ لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ،فكما الرّوح وديعة وسوف تُسْلَبُ فالنفس هويّة ذاتيّة أمانة عند الإنسان فليُزكّيها ويؤدّبها ويهذّبها ،ولذلك عليه أن يسعى جاهدا ومجاهدا لتسليم الأمانة والودائع إلى صاحبها فهو ليس بمالك بل هو مملوك وعبد لسيّده واجده من عدم ورازقه ووليّ نِعمته .
فالنّفس والرّوح هيئة وهويّة معنويّة متّصلة بخالقها ولا إنفكاك وإنسلاخ وإستقلال ممن خلق فسوّى والذّي قدّر فهدى.
فالإنسان من اللّه وباللّه وإلى اللّه حقيقة دون مواربة وخداع واوهام نفس .
وإنه لمن المفارقة العجيبة أنّ قلّة قليلة من البشر من تتجاوز ظاهر الوجود وسطحيته وشكلانيته السطحيّة وحجاب الظلمة وذلّ الحصر.
إذ الغالبيّة العظمى غارقة منهمكة مشغولة منهمكة منغمسة بشواغل ومشاغل الدّنيا وهي متعلّقة عالقة بهموم الدّنيا من جهة الحقيقة الماديّة المتّصلة بجثمانية الإنسان وجسده المنهك المثقّل بالأوهام والآمال والهموم والحرص والطمع والخوف والنظرة الإستشرافية لمستقبل وغدّ في حكم الغيب
على الإنسان أن يبحث عن كنزه المعنوي الكامن في باطن ذاته وأن يسعى لمحاورة ومعالجة قالبه المعنوي الذّي به إنسان وذاتا بشريّة متميّزة متفرّدة عن كل الكائنات الأخرى. وعليه أن لا يتمسّك بظاهره وزينته ومظهره الخارجي لكي لا يعيش خاضعا تابعا خانعا ذليلا لأهوائه مُلبيّا إحتياجات ومتطلبات جسده الشهوانيّة .
إذ يكفيه تلبية ضرورياته الحياتيّة الأساسيّة للحفاظ على سلامة جسده وليرتقي بمعناه وحقيقته الباطنيّة فهيئته وهويته الباطنيّة أعمق من سطحية ظاهره وشكله وصورته الخارجيّة .
" فما كان للّه دام وإتّصل وما كان لغير اللّه إنقطع وإنفصل".
إنّ عبوديّة الإنسان وصدقه وإخلاصه لمولاه وتعلّقه وإستئناسه به تُحيله إلى عالم المعنى وأُفق أرحب لحياة سرمديّة لا تنتهي بفناء القالب الجثماني بل تنصهر فيها الرّوح والنّفس ضمن سياق وصيرورة تابعة منجذبة لمولاها فلا تُعارضه ولا تُعانده ولا تّجادله بل مستسلمة موافقة لتجلياته سبحانه وتعالى.
فالحياة البشريّة مبنى لصورة وظاهر الوجود ومعنى لباطن وصيرورة الوجود.
الأستاذ : شكري بن محمّد السلطاني
تونس
25 فيفري 2023
Peut être une image de 1 personne

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق