الأحد، 5 فبراير 2023

محطّات عرفانيّة بقلم الأستاذ : شكري بن محمّد السلطاني

 محطّات عرفانيّة

حياة الإنسان فرصة سانحة لتحصيل المعرفة بالوجود وبحقيقة معناه وبخالق الوجود طالما مازالت في الحياة بقيّة باقيّة.
حينما يُرجع الإنسان شريط عجلة الزمان إلى الوراء متأمّلا مساره وصيرورة حياته وبما آلت إليه الأمور مسترجعا الذّكريات والأحداث والتّجارب والتعلّقات والعلاقات ليتسأل هل إستهلك زمانه بما يجب أن يفعل أو بما يجب أن لا يفعل في محطّاته الحياتيّة الهامّة؟
فهل أخطأ أو أصاب في مواقف وقرارات مصيريّة أثّرت في نحت معالمه وبناء شخصيته ؟هل وُفِّق في إختياراته أو خاب في تصرّفاته وتوجّهاته ؟
1_ العزل والإنسلاخ :
إنّ الواقع بظواهره ومظاهره وأفانينه وبأفكار النّاس وأذواقهم وهذيانهم قد تغشو البصيرة فتحوم الأوهام في النّفوس لتتسرّب المثاليات في الفؤاد والفكر دون رويّة وبصيرة .
وكلّ حسب إستعداده وهشاشة نفسيته للتقبّل يتأثّر وينساق متسبّبة في إنحراف غالبية النّاس عن أهدافها ومسارها الإيجابي الذّي كان من الممكن أن ينغمس فيها الإنسان بعين ثاقبة غير طامسة ولا حسيرة وبعقل منتبه ونفسّ متحفّزة للفعل والإنجاز في حينه دون إهمال وتسويف وإنصراف عن أداء مهامه الأساسيّة الهامّة.
فعوض أن يتّجه إلى هدفه ينجرف وينحرف إلى هوامش ومواضيع لا تعنيه .
قد يسبق الحرص التعقّل والبلادة على الرصانة والحماقة على الكياسة والخيبة والفشل على النجاح والفلاح لقلّة الخبرة والجهل والغفلة والغرور والوهم.
فهل من الممكن أن يعيد الإنسان بناء ذاته وتصحيح مساره و مداواة إختلال رؤيته وفهمه بإستبدال النظرة الأحاديّة ذات البُعد الواحد الظاهري الشّكلاني الظاهراتي النّفسيّ الذّاتي والوعي الآني بالظروف والأحداث المنعكس المُسقط في الظواهر والأحوال لينتقل إلى النظرة الشموليّة متعدّدة الأبعاد ظاهرا وباطنا ،شكلا ومضمونا،بنيويا ووظيفيا ...
فالأحكام القيميّة التّي يُصدرها الإنسان من وجهة نظره المنحازة لتمثّلاته ذات البُعْد الواحد للتّفسير والتّحليل لن تجُديه نفعا لتغيير ما يجب تغييره .
فالرؤية ذات المقاربة الشاملة تعالج الإخلالات والنقائص في الفهم والإدراك والممارسة وتُصلح الخلل والخور وتُصحّح مسار الزمان والإنسان بعُلوّ القيّم السّليمة وإعدام القيّم السّقيمة.
فهل يجعل الإنسان لحياته قيمة ولقيّمه أصالة ونفع وفاعليّة وجدوى للفعل والكدح دون توهّم وغشاوة المثاليات وضغط الخطرات واللّحظات؟
فكما يتطوّر وينمو الإنسان في مراحل حياته لتتغيّر سُحنته وملامح جسمه فليغيّر من أفكاره ومفاهيمه وعقليته ونفسيّته وعاطفته وإنصرافه لما لا يعنيه ويُفيده ليتحوّل ويرتقي إلى مراقي عرفانيّة عليا وإلى أذواق وفنون ساميّة راقيّة متجاوزا بذلك قعر وحضيض السفالة والنذالة والرداءة والبلادة وسيء سلوك البشر
( mauvais fonctionnement) .
لن يحصل التغيير المنشود إلى الأفضل إلا بعد عمليّة عزل اللاأنا ( le non soi ) والإنسلاخ من الأنا السطحيّة تلك الهويّة الذاتيّة الأوليّة (le soi périmé) التّي ترسّخت قبل نُضجه ووعيه بالعادة والتّكرار والإنفعال والتّفاعل في ظاهر أحوال العبد وغفلته وتوثّبه وتجاربه الأولى في الحياة حيث الإرتطام والإصطدام بالأحداث الحادّة والوقائع التّي تتولّد عنها الخيبات والنكبات والندبات العاطفيّة الشعوريّة الكامنة المنغرزة في النفوس والعقل الباطن .
إنّ إكتساب الدّربة والخبرة والدراية في الحياة تقتضي الغوص في المعاني بمضامينها لا الإنجذاب والتوجّه بالإهتمام والتعلّق بظواهر المظاهر وشكلانيّة وزخارف الحياة ومع ضرورة معالجة بواطن المسائل والإشكاليات بالعلم وبشحذ الهمّة وركوب مطايا العزم والكدح والعمل بجد وصبر ومثابرة .
فليس المجد تمر أنت آكله أيّها الإنسان ولا النجاح والتألق والتميّز والفلاح وَهْم وحُلم وخيال متلبّس بك يقيّدك دون إنجاز!!!
هيهات أن ينال العاجز من أتبع نفسه هواها والكسول الخامل والمغرور الواهم والرعديد الجبّان الخائف ما يصبو إليه ويرجوه !!!
فما نال العُلى والسؤدد إلاّ الشُجاع المقارع الجسور المغامر الكادح اليقظ الفطن الحاذق .
إنّ تجاوز ظاهر الشّكل بمعنى الباطن من البصيرة والعلم .
فالقشرة الحاجبة للفهم والغشاوة المانعة لللإدراك لا يمكن رفعهما إلاّ بعملية الإنسلاخ والتحرّر من القوقعة الذاتيّة والغربال اللاشعوري الكامن خلف الشّعور .
فكما تنسلخ الحيّة من جلدها والجرادة من شرنقتها فليتحرّر الإنسان من عوائده وعاداته وسجنه وسجّانيه وقيوده وجهله ووهمه وغروره.
فمتى يستفيق من كبى به جواده وخاب سعيه من سُباته ونومه العميق؟
فلا نباهة ذاتيّة وإجتماعيّة وتجاوز كل مظاهر الغفلة والإستحمار إلاّ بالعزل والإنسلاخ .
2_ الحياة تجارب وخبرات :
التّجارب الحياتيّة البشريّة من الأكيد أنّها تُكسب الإنسان دربة وخبرة فهما ووعيّا وإدراكا بمعاني الحياة العميقة فتُمكّنه من معرفة جديدة مُغايرة قد تُضاف إلى معارفه السّابقة بحصول تراكمات كميّة معرفيّة يكتسبها الإنسان في حياته الدنيويّة . وقد تسمح كذلك بالتّجاوز قطعا مع مفاهيم ومعارف سابقة خاطئة لم يُحسن صياغتها وبنائها ليُحقّق بذلك قفزة نوعيّة يتخطّى بها عقبات وعراقيل كانت حائلة مانعة لتقدّمه وتطوّره وإرتقائه.
فالوجود مُتاح للفعل والكدح والعمل بجد وصبر ومثابرة وهو ساحة وفضاء ومجال الإنسان للعيش والممارسة والتطوّر والإتصال بالحقّ ومعانيه.
فمتى علت همّته وشحذت عزيمته بنور معرفته وبراهين خبراته أمكن له التّجاوز والإرتقاء وتحقيق ما يصبو إليه ويرجوه.
ولكن هَمُّ الإنسان ما أهمّه فهل يهتمُّ بما يُهِمّه فيصرف إهتمامه وطاقته لنفعه وإفادته ماديّا ومعنويّا؟
3_ حقيقة لا حول ولا قوّة إلا باللّه :
من النّاس " من يُصبٍحُ آمنا في سٍربٍه مُعافى في جسده عنده قُوت يومه " وكلّ النّاس تسعى وتعيش حياتها بتيسير فعلها وحركاتها وسيرها دون أن تعي ذلك و تنتبه لآثار نِعَمْ ربّها عليها فتنسى في خضم مشاغلها وشواغلها وهمومها نعمة الإيجاد والإمداد ولُطفه ومغفرته وإمهاله .
تنسى فطرتها وما أستودع فيها من قوابل وإمكانيات وإستعداد للفعل والسعيّ فتعتقد واهمة أن كلّ ذلك من تحصيل الحاصل فلا تعير إهتماما لآثار نعمة اللّه عليها .
إذ لا وجود للإنسان حقيقة بذاته فذلك بحول وقوّة اللّه العليّ العظيم و هو مُعطى إلاهي أساسي أوّلي.
فروحه وديعة وسوف تُسْلَبُ وحياته فرصة ولسوف تنقضي وتنتهي بعد حين من الدّهر.
فمتى يعي الإنسان حقيقة لا حول ولا قوة إلا باللّه وحده ؟
فمن منظور بيولوجي وفيزيولوجي يتأكّد برهانيّا ودلاليّا أنّه لا حول ولا قوة للإنسان بذاته وقُدراته وإمكانياته .
فتيسير فعله وسيره وحركاته من إشتغال أعضائه الحياتيّة التّي لا يتحكّم فيها وليس له سلطان عليها بل يتأثّر وجوبا بعطبها ويتألّم لإصابتها وضررها.
إنّها حكمة الأقدار وتصرّف الملك الديّان في الوجود بعلمه وحكمته ومشيئته سبحانه.
متى يُنْصِتُ الإنسان لهواتف الحقيقة ويتنحّى عن غروره ووهمه بحاله و ينسلخ وجوبا من أنيّته العالقة به الحاجبة عنه الحقائق؟
4_ الخطاب الإلاهي بزيادة دون نقصان:
إنّ الخطاب الإلاهي المُدوّن في كتاب اللّه المسطور يستوجب حتما إدارك وفهم معانيه ظاهرا وباطنا بأبعاده الشّاملة المعرفيّة المفاهميّة الإدراكيّة الشعوريّة والذوقيّة بكل أبعاده بزيادة دون نقصان .
( Lecture par excès non par défaut)
فيكون بإستيعابه وقراءته بالإنصات والتدبّر والتعمّق في معانيه دون إخلالات وإهمال وإنصراف وإستهتار وغفلة .
لأنّ تناوله بنقص فهم وتغافل نتيجة لجهل الإنسان ونقصه وعجزه ليلامس نقصه الخطاب الإلاهي فيصبغ ما به من نقص وحُمق وغباوة على العبارات والإشارات والمعاني الربانيّة فيستحيل بذلك فهمه وادراكه وسلوكه الحسن .
ليخيب دون أن يشعر بإخلالاته وتجنّيه وفداحة ما أتاه من وهم وسوء فهم وهو يعتقد أنّه يُحْسِنُ فِعْلا.
لقد كانت من قبل الكائنات العاقلة ملائكة والجنّ إبليس تعيش من خلال تمثّلاتها وإدراكها وفهمها وذوقها وتحسّسها للوجود حسب معاييرها الإدراكيّة وشعورها الشخصي.
ولكن بعد خلق آدم عليه السلام والأمر الإلاهي بالسجود له تشريفا وتكريما إنتفت التمثّلات ورؤاهم ووجب مغادرتهم قوقعتهم الذاتيّة والانصياع والطاعة .
ولقد حصل التّمحيص والوعي بحقيقة الربوبيّة وصدق عبوديتهم في أوّل إبتلاء لنفوسهم فعاشت بعدها كلّ الكائنات العاقلة بإعتبار إرادة خالق الكون وتدبيره لا بمشيئتها وإرادتها.
( وما تشاؤون إلاّ أن يشاء اللّه ).
فمن يستقبل الخطاب الإلاهي بزيادة دون نقصان فقد فاز بتجاوز نُقصه وجهله وعجزه .
أمّا من ثبّت وهمه وجهله ونُقصه فقد خاب وما أصاب .
ولقد تواصلت إرساليات الرّحمان في مسيرة وصيرورة البشر عبر الرّسل والأنبياء لتوقظ ضمائرهم وتُذكّرهم بميثاق فطرتهم فما وجد سُبحانه من غالبية النّاس إلاّ التعنّت والتمرّد ومحاربة المرسلين وعصيانهم.
وكذلك بعد ختم النبوّة بالحقيقة المحمديّة يتواصل نكران الجميل والكُفر ( وقليل من عبادي الشّكور ) رغم البراهين والدلالات والإشارات والآيات في الآفاق وفي النّفوس.
فقد إنحازت غالبية البشر بما توهمّت أنها تملك وإستمسكت واهمة بحولها وقوّتها وعلمها ومعرفتها مع أنّ لا حول ولا قوّة لها حقيقة إلاّ بربّها .
فمتى تعي البشريّة جمعاء قيمة حياتها وفرصتها في العيش لحين من الدّهر ؟
( ولكم في الحياة مستقِرّ ومتاع إلى حين ).
فمتى تُصلح من إخلالاتها وهفواتها ليصلح حالها وأحوالها ؟
الأستاذ : شكري بن محمّد السلطاني
Peut être une image de 1 personne et intérieur

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق