بعيدا عن التنظيرات ... النقد ابداع أو لا يكون…
بقلم الناقد والكاتب محمد بن رجب
"بدأت الكتابة الأدبية في نهاية الستينيات زمن الطليعة الثقافية التي حركت الساحة الابداعية وغيرت ملامحها وقد كنت في أول مقال لي أستعد لخوض امتحان الجزء الأول من الباكالوريا .. وكان الموضوع الذي طرحته على النقاش هو غياب النقد الأدبي في تونس مقارنة بالحركة النقدية الزاهرة في مصر ولبنان وسوريا.. وربما العراق أيضا .. قلت بغياب النقد الأدبي رغم أن جماعات الطليعة في الأدب مثل عزالدين المدني وسمير العيادي ومحمد صالح بن عمر أثروا النقاش وحركوا السواكن مع جماعة الطليعة المسرحية مثل محمد ادريس والفاضل الجعايبي والفاضل الحزيري ..ومع جماعة الموسيقى مع محمد القرفي وحمادي بن عثمان ..وفي الفنون التشكيلية نذكر نجيب بلخوجة ... كل هؤلاء أثروا النقاش الثقافي وارتفعوا به ثقافيا وعلميا نحو تثوير الأدب التونسي والدفع به الى المغامرة .. ..وكانت الجامعة التونسية الحديثة آنذاك تضخ الدماء الجديدة في الابداع ..وتسعى الى الاطاحة ب "كبار الحومة" في الكتابات الكلاسيكية والمحافظة لفائدة أدب تونسي جديد .. ومع ذلك فإني كنت أقول بغياب النقد الأدبي لأني كنت أعتبر مع ثلة من الأصدقاء الكتاب أن ما يحدث في البلاد ليس نقدا إنما "ابن عمه" أو" شقيقه " فقد اعتقدت أن ما يجري على الساحة من خلال الصحف السيارة والمجلات و الدوريات وأيضا من خلال بعض البرامج الإذاعية والتلفزية مثل برامج خالد التلاتلي ورشاد الحمزاوي ومصطفى الفارسي وغيرهم إنما هو دعاية للطليعة ومدحا لها لأنها كانت تضم كتابا من الشباب الثائر دون الالتزام بأحزاب معينة وهم في حاجة الى الدعم والمساندة .. فما نذكره أن الكثير من الطليعيين ينتمون الى الحزب الاشتراكي الدستوري الحاكم من منظور يساري لا يقبل باشتراكية الرئيس بورقيبة أو بتعاضديات أحمد بن صالح ..كانوا بالفعل يحلمون بتونس اشتراكية ولكن ليست الاستراكية التي تمارسها الدولة ... هناك من الطليعيين من لا يؤمن باليسار انما هو من المطالبين بالديمقراطية وإصلاح الانظمة السياسية في البلاد العربية اذ كانت كلها توجه نحو ديكتاتورية مجحفة أدت الى هزيمة كامل الأمة العربية ..وبالتالي ظهرت موجة أدبية طافحة ضد الفكر القومي العربي بلورتها جماعة أدبية تتمسك بأدب محلي باعتبار كونهم يعتبرون أن العرب ليست ملة واحدة وإن تقاربت في الروح وتشابكت مصالحها في ارساء أنظمة مستبدة تكره الحرية وترفض النقد . وهذه الروح المنغمسة في الاستبداد تعتبر الديمقراطية عدوة ومخربة للأنظمة وهي وافدة تحركها قوى أجنبية لا تريد الخير للبلدان العربية .. ومما يؤكد أن الطليعة ليست ثورية انما هي إصلاحية هي أن ابداعات الطليعة في الشعر والقصة والرواية كانت تنشر في الملحق الثقافي لجريدة العمل الناطقة باسم الحزب البورقيبي الحاكم كما أن مجلة الفكر للاستاذ محمد مزالي الذي مسك الوزارة الأولى 6 سنوات كاملة من بداية الثمانينيات الى جويلية من سنة 1986 وطبعا لم تكن المسألة تلقائية وتبلورت بالصدف وتحت تأثيرات عالمية فقط إنما كانت الدولة ..وادارة التوجيه الحزبي متفطنة الى أن الشباب التونسي الجديد المتخرج من الجامعات التونسية والأجنبية لهم فكر جديد ويحملون توجهات يسارية منها توجهات شيوعية متطرفة فاستعدت لذلك حتى لا يستفحل امرهم ويصعف النظام أمام التوجهات الجديدة خاصة منها الرافضة للنظام القائم وذلك باستقطابهم سياسيا أو بملاحقتهم أمنيا وبالمحاكمات السياسية العديدة في نهاية الستينيات وكامل السبعينيات ..وفي الثمانينيات شملت الشيوعي والماركسي والبعثي والقومي وحتى الدستوري الذي ابتعد عن الحزب الحاكم واصبح يطالب بالحكم الديمقراطي مثل جماعة أحمد المستيري وجماعة جريدة "الرأي" بإدارة حسيب بن عمار .. وعلى ما يبدو فإن جماعة الطليعة انتصرت سياسيا وتقربت من السلطة وحصلت على المناصب خاصة في المجالات التربوية والثقافية ..وتوقفت الطليعة بأمر من بورقيبة الذي افهمه توجه معين من الحزب ان الطليعيين ضده وأنهم مخربون ..وبالتالي تغيرت المعطيات وانتهت الطليعة التي اكتسبت الحضور الفكري والثقافي ..لكن الطيعة لم تترك تراثا قويا على المستوى الابداعي رغم قوة رغبة عناصرها في الكتابة الجديدة بروح إبداعية عالية ..لكن هذه الروح لم تتبلور كما نشتهي لأنها لم تكن واضحة في المغامرات واختارت التقرب من السلطة والتمتع ببعض مباهجها ..أما الطلائع الحقيقية ذاقت الحرمان من الحرية وعرفت السجن وألوانا من التعذيب ..لكنهم للأسف هم أيضا فشلوا في الكتابة الابداعية بسبب السجون والمحاكمات أو بسبب عدم التفريق بين الكتابة العادية والكتابة الإبداعية الزاخرة بالروح المجازفة والمغامرة . لماذا ابتعدت لكم عن النقد الادبي واقتحمت عالم السياسة ؟؟!! والجواب هو أني مؤمن بأن الذي لا يرى علاقة بين غياب النقد الأدبي وبين سيطرة الاستبداد على الساحة الوطنية في جميع مجالاته فانه يرى بعين واحدة أو يحلق بجناح واحدة ..ولا يعرف ماهية النقد ولم يدرس النقد الادبي الحديث للاستفادة وإحداث التغيير وقد تشبث بالنقد الانطباعي من قبيل هذا جيد . وهذا هزيل ..وهذا يتميز برسالة أدبية ..والآخر لا يقول شيئا إنما هو من الذين يرددون ما قيل من قبل أو يعيدون انتاج الكتابات القديمة باسم المحافظة على اللغة العربية والدفاع عن التراث العربي مع العمل على محاربة الحداثة التي يعتبرها الكثير من الكتاب مستوردة وليست أصيلة .. وإحقاقا للحق تمكنت كلية الآداب والعلوم الإنسانية في نهاية الستينيات وفي كامل السبعينيات من تعميق الحداثة الفكرية وإقحام الروح التجديدية في الكتابات الأدبية من خلال البحوث الادبية والفكرية التي تبلورت في هذه الكلية وزادت انتصارات وتعمقا بكليات أخرى ظهرت فيما بعد مثل القيروان وسوسة ..ولا يمكن أن ننسى الدور الكبير الذي قام به الناقد الكبير الاستاذ توفيق بكار وهو يساري غير متطرف ..والأستاذ منجي الشملي الذي أسس مع أصدقاء له مجلة التجديد التي أثرت بعمق في تجديد الثقافة التونسية وشحنها بالآداب المقارنة
.وجماعة التجديد التي ظهرت قبيل الطليعة الأدبية "صنعت "جيلا مؤمنا بالتغيير ..ووجهته نحو كتابات لا ترفض التراث ولكنها لا تعشقه ولا تقدسه بل تعتبره دافعا لقراءته من جديد تعميقا للروح النقدية.. لكن للأسف تطورت البحوث الأدبية والفكرية والفلسفية في تونس تطورا كبيرا وبثت الروح الثقافية التقدمية الثائرة التي تغامر بالجديد في القراءات وتتعمق في البحث عن كل ما يدفع الى القطيعة مع الماضي ايبسموستولوجيا دون القطع النهائي الذي يؤدي الى الانبتات الثقافي والالتزام بالانغيار ..أي الالتصاق بالغير من الأجانب الذين يعتبرهم الكثير من كتابنا مبدعين ونحن جامدين ابداعيا وفكريا . ولا بد من تبني الفكر التجديدي على أساس أنه التقدم الحقيقي ..وقد اشتد الصراع بين "الطوائف" التي لم تقدر على التخلص من السياسة السياساتية منها جماعة متمسكة بأدب تونسي بحت والالتزام بالروح التونسية وكأن تونس مفصولة عن العرب وعن تاريخها الطويل مع النهر العربي الكبير بما تمت تسميته ب "التونسة " وجماعة يعتبرون التونسة جريمة في حق الثقافة العربية وتكليسها بفكر اقليمي مجحف .. وهؤلاء كلهم في صراع مع المتخرجين من الجامعات الأجنبية وخاصة منها الفرنسية من الذين آمنوا بأن لا أمل للخروج من التخلف الثقافي ودفع الإبداع الى الامام دون الإيمان بكل المستجدات الغربية دون تحفظ.. وفي هذه الأجواء التي لعبت فيها السياسة بكل ألاعيبها أدوارا كبيرة جعلت البحوث تتعالى على النقد الأدبي الذي يتطلب روحا ابداعية . أي ابداع نص نقدي أدبي على نص ابداعي في الشعر والسرد القصصي والروائي .. ولذا فانه يبدو لي أن النقد المطلوب الذي دافع عنه الاستاذ توفيق بكار المغامر الكبير من أجل نقد ابداعي يستفيد من البحوث والدراسات ولا يسكنها والناقد يتصور نفسه في عمق النقد وهو في الواقع في عمق البحوث أقول ذلك لا رفضا للبحوث والدراسات بل انا من أنصارها لتطوير العلم و تعميق البحث للاستفادة منه على أساس الانفتاح على جميع المدارس التي تسعى الى تطوير المناهج المختلفة وابتكار مناهج جديدة ..إنما النقد الذي أدافع عنه هو المغامرة من أجل ابداع أدبي مغامر بروح لا هي انطباعية ولا هي للشرح والتفسير والتبرير ..ولا هي كتابة علمية قد تحنط الابداع وتبعده عن روحه المنطلقة والحرة فالنقد انطلاق وتحرر وخروج عن المألوف وابتعاد عن التكرار والاجترار وإعادة إنتاج الماضي فالكتابة انطلاق داخل الروح الكاتبة لإبداع إنسانية جديدة متحررة من كل المكبلات بما فيها المكبلات العلمية البحثية ..وعلينا أن نعرف أن المبدعين الكبار في العالم هم الذين تخلصوا من الكتابات القديمة وتسلحوا بروح عالية من التجديد وهدم القديم والبناء عليه دون اعتماد أسسه ... غبريال غارسيا ماركيز مثلا لم يصبح بهذا الإسم إلا لأنه كتب نصوصا جديدة ..وكأنها متأثرة بالعلوم الخيالية التي انتهجتها السينما منذ السبعينيات ..وأعطت روحا أخرى للسينما..فمن سبق في التجديد الأدب أوالسينما أعتقد أن الابداع لا يتطور في مجال واحد ..بل هو عملية ثقافية تتبلور مع الايام ..
أعتقد أن الابداع لا يتطور في مجال واحد ..واذا ما استقر ذلك الابداع طويلا هناك من يأتي لتثويرها وهذا الذي يأتي لتثويرها هو النقد الإبداعي... وإذا لم نتمكن بعد من التفريق بين النقد والدراسة ..علينا أن نقرأ النصوص النقدية القصصية والشعرية للناقد المجدد المبدع توفيق بكار الذي انتج جيلا مبدعا في سنوات السبعين والثمانين...لكن الكثير منهم التزم البحوث والدراسات وابتعد عن النقد الابداعي .. فالنقد إبداع أو لا يكون ؟! هل نعود الى المنطلق لأقول بأن ما كتبته في شبابي الأول مازال قائما والأزمة اشتدت رغم الحركية التي تشهدها تونس في مجال الإبداع الشعري والسردي ..وما يبدو من نقد للكثير من المبدعين ليس نقدا انما هو تفسير وشرح لما ينشر ..وما يزيد الطين بله أن النقد البحثي أو الدراسي في النوادي والملتقيات أصبح مرتبطا بالمال فمن يدفع يجد من يهتم به ومن كان صادقا مع نفسه وانتظر كلمة خير في نصوصه دون أن يدفع فقد ينتظر طويلا اذا لم يعرف من يكتب بمقابل ..ومن لا يكتب الا من أجل الأدب وهذا النوع الثاني أصبح نادرا للأسف ... ..وقد قيل أن هناك لوبيات في الميدان ...وهذه قضية أخرى ..قد نعود إليها ..ولي في الموضوع قصص مضحكة وحكايات مزعجة مرتبطة بالعصر الذي أرتبط بالسوق ..وحتى بالفساد.. ومن السقوط أن يصبح النقد سوقيا ..والابداع غارقا في الفساد ... "
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق