الخاتمة المباغتة في القصة قصيرة جداً (مرايا صدئة) للكاتب المصري محمد البنا.
بقلم سهيلة حماد الزهراء... من تونس.
النص: مرايا صدئة
اختتمت حديثها عبر الهاتف:
- سأنتظرك أنا وزوجي في المقهى المواجه لمكان عملك.
- كيف سأعرفكما؟
- لا تقلق... ستعرفنا لحظة أن ترانا.
أنهى عمله، دخل المقهى، أدهشه التشابه الشديد بين ملامحه وملامح زوجها،
بادرته قائلة:
- أخيرًا عثرنا عليك، بعد بحثٍ دام لسنوات
- لمَ يا سيدتي؟
- زوجي عقيم وأنا اعشقه، وأرغبُ في إنجاب طفلٍ يُشبهه.
لم يُغره عرضها السخي، ضحك حتى بدت نواجذه، مال عليها هامسًا:
- طفلي الوحيد... لا يشبهني.
حدثتني زميلتي يوما بأن امرأة فائقة الجمال في الأربعينيات من القرن الماضي كانت ملتحفة بسفساري حريري، كعادة أهالي مدينة تونس في ذاك الزمان، لكن على غير العادة كانت تمشي بمفردها... تفوح منها رائحة عطر معتقة، تثير البهجة والاجتياح اعترضت طريق خالها ذات أمسية تتبختر في مشيتها تترشق بقبقابها... حاملة بيدها (صرا) كذاك الذي تذهب به النسوة إلى الحمام التركي للاستحمام، فطلبت منه أن يمنحها طفلا خشية أن يطلقها زوجها -الذي زعمت أنها تحبه ولا تستطيع العيش من دونه- مثيرة بذلك شفقته، علما أن محدثتي تؤكد لي أنها لا تعلم إن كان خالها لبى الطلب أم رفض، أم أنها تكتمت على الموضوع.
هذه الحكاية أثارها نص الأستاذ محمد البنا
(مرايا صدئة) للوهلة الأولى.. غير أن المرايا التي فقدت بريقها وجزءا من وظيفتها إما بصفة جزئية أو كلية بفعل الصدإ، مع ما أنجر عن ذلك من تشوه على انعكاس الصورة جعلتني أقف أتأمل في هذه الحقيقة التي تتوافق مع رمزية القفلة الحوارية، المختومة بنقطة واحدة: "طفلي الوحيد ..لا يشبهني." لتحسم هذه الجملة الأمر، موهمة القارئ بحقيقة واقع القصة الممسرحة في مختبر القص التي جسدها البطل العقيم الذي تخيل أن زوجته أنجبت له ابنا لا يشبهه قبل به.. خشية أن يكتشف الناس عقمه فتضرب رجولته.. اختلط الواقع بالخيال.. فبدا لنا كأن السارد الأنا انتابه الشك في كل شيء.. فبدا العقم لديه صدءا معرقلا معيقا حاجبا لحقيقة قد تشي بخيانة ما.. فاخترع من خياله سيناريو مفتعلا وهميا لحوار دار بينه وبين امرأة لزوج عقيم يشبهه ترغب في إبرام اتفاق بينها وبينه بموافقة زوجها لتنجب منه ابنا يشبه زوجها لتلجم الألسنة حتى تنفي عن نفسها تهمة الزنى وعن زوجها صفة الديوث لاحقا..
جاعلا منهما مرآة عاكسة كاشفة لأغوار نفسه المنكوبة التي تحلم بالخلود من خلال سليل يخلفه غير أن نفسه تملكها الشك في كل شيء وعدم اليقين بكل شيء.. بعد أن طال الغش كل شيء فلا العذرية عذرية ولا السليل سليل ولا الشبيه نسخة حقيقية، بعد أن ضاعت التقاليد وغاب العرف والسنة الحسنة وبات الكل تقليدا.. والرشوة سنة حميدة.. والإغراء تجارة..
إن نسق سياق الخاتمة جاء مباغتا مخيبا لآمال القارئ تتعارض مع حتمية الهدف المنشود المرسوم من قبل الزوجين، ضاربة عرض الحائط، محدثة مفارقة لنهاية تعيدنا إلى العنوان لنتأمل في حقيقة الدال والمدلول تتقاطع مع رؤية شيخ النقاد Ahmed Tantawy من جديد محاولين فك كل رمز من الرموز لنكتشف أن المرايا الصدئة هي ظل نفوس مهترئة أضناها الضياع فباتت مغلوبة على أمرها تقبل بتياس الهوى.. بعد أن ساد الفساد وتعطلت أنظمة الظلال الناتجة عن الانعكاس المتمرد.. بعد غياب الشفافية كأنه تمرد على الكينونة البشرية وصيرورة الزمان فكل شيء بات فاقداً لمعناه بعد أن فقد كنهه ورائحته..
الأسلوب:
جاء النص من السهل الممتنع موجزا مكثفا اعتمد على الرمز والإضمار والإيحاء، عبر الحوار الذي دفع بالحكائية عبر استنطاق الشخصيتان مستخدما السؤال والتعجب ما أغنى السارد عن الإسهاب والتوضيح..كأنه بذلك أوكل للقارئ نسج نص مواز لننطلق من الفكرة التي نجح الكاتب محمد البنا في توظيفها بحسن اختيار قالب القصة القصيرة جدا..
اقتصر السرد على ثلاث جمل فعلية جاءت الأفعال مزيدة تعتمد الحركة على وزن أفعل (أنهى أدهش) وعلى وزن افتعل (اختتم) وفاعل (بادر) وفعل ثلاثي (دخل) .
"اختتمت حديثها عبر الهاتف"
"أنهى عمله، دخل المقهى، أدهشه التشابه الشديد بين ملامحه وملامح زوجها"
"بادرته قائلة".
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق