على هامش رحيل القامة الادبية والفكرية الشاهقة د-محمد البدويي :
أقيموا..جنازة تليق بموته القدَري
الإهداء:
إلى أستاذنا الجليل د-محمد البدوي.. في رحيله الشامخ
علمت هذا الصباح الخريفي البائس بموتك القدَري..
وها أنا أحاول جاهدا تطويع اللغة،ووضعها في سياقها الموازي للصدمة..للحدث الجلل..
إننّي مواجه بهذا الإستعصاء،بهذا الشلل الداخلي لقول الكلمات الموازية،أو المقاربة لرحيل القمر والدخول في المحاق..
ولكن الدّمع ينهمر نزيفا كلّما هبّت نسمة من المنستير *..
هو ذا رحيلكم القدَري..شيء في قاع الرّوح يتفتّت..دمع حبيس يدمي أوردة القلب..قلوب تطفح بأسى مهلك صامت مبيد..
هكذا كان-رحيلكم-عن هذه الدنيا الفنية فاجعا..صادما..عاتيا..متوحشا..ضاريا
هو ذا الموت..يتمطى في إتجاهنا جميعا..كلما حاولنا تناسيه..
الدنيا لم تصب بقشعريرة ولا بإندهاش.إنّها”تلتهم بنيها بشراهة"
ماذا تعني كلمات أو مفردات:منكوب أو مفجوع أو مدمّى أو منكسر؟..
لا شيء سوى الفراغ الذي كنت تملأه فيما مضى.يتسع بك ويضاء بالبهاء الإنساني والغنى الروحي الحزين
الرجولة الفذّة والقلم الفذ الذي يخط أروع الكلمات والجمل..
الآن بعد رحيلكم-القَدَري-أعيد النظر في مفاهيم كثيرة،ربما كانت بالأمس قناعات راسخة،الآن تبدو لي الحياة بكل مباهجها كأنّها مهزلة وجودية مفرغة من أي معنى سوى الألم والدموع..
الكون الحزين يرثيك.
فرحة هي النوارس بمغادرتك عالم البشر إلى الماوراء حيث نهر الأبدية ودموع بني البشر أجمعين..
أنت الآن في رحاب الله بمنأى عن عالم الغبار والقتلة وشذّاذ الآفاق،والتردّي إلى مسوخية ما قبل الحيوان.
هل كان الحمام"المستيري" يعبّر بهديله عن رغبته في اختطافك إلى الفضاءات النقية لتكون واحدا من –قبيلته-،بعيدا عن الأرض الموبوءة بالإنسان الذي تحوّل إلى وحش ينتشي بنهش الجثث،قاتل للحمام والبشر،معيدا سيرة أجداده القدامى منذ قابيل وهابيل حتى الآن..؟
نائم هناك على التخوم الأبدية،وروحك تعلو في الضياء الأثيري،طائرا أو سمكة أو سحابة أو لحنا في موسيقى.
لقد غادرت المهزلة الكونية للعبور البشري فوق سطح الأرض.
في الزمان الحُلمي،كما في رؤيا سريالية،سأحملك على محفة من الريحان،بعد تطهيرك بمياه الوديان،من مصبات الأنهار والمنحدرات الصخرية بإتجاه البحر..
سيسألني العابرون :إلى أين؟
في السماء نجمة أهتدي بها.أعرفها.تشير دوما إلى جهة في الشمال.أنت أشرت إليها ذات غسق وهي الآن فوق-المنستير-تضيئها بلمعانها المميز عن بقية الكواكب.
وهي تشير كذلك إلى المرقد والمغيب فوق أفق البحر في أواخر المساءات.أحملك نحوها لتغطيك وتحميك بنورها الأسطوري لتدخل في ذرّاتها وخلودها الضوئي..
قبل هذا الإحتفال الأخير،سأطوف بك حول -كل الجامعات-التي أحببت،معقل حملة الأقلام والمربين،حيث يرثيك أهلك و-وزملاؤك وكذا طلبتك- بدمع حارق يحزّ شغاف القلب..
يسألني العابرون أو أسأل نفسي:هل محاولة إستعادة نبض الحياة الماضية يخفّف من وطأة صدمة الموت؟..
لا أعرف شيئا..
حين يأتي المساء الرّباني سننلتئم تحت خيمة -مستيرية-.نشعل النيران في فجوات الصخور اتقاء للرّيح،ونبدأ الإحتفال في لحظة بزوغ القمر فوق الهضاب الجنوبية..
أما أنتم -ياسادتي الكرماء- : إذا رأيتم –أستاذنا الفاضل-مسجى فوق سرير الغمام فلا توقظوه،إسألوا الصاعقة التي شقّت الصخرة إلى نصفين لا يلتحمان.
إذا رأيتم-أستاذنا الجليل الفقيد محمد السيوطي المؤدب-نائما في الصمت الأبدي فلا تعكرّوا سكينته بالكلمات.
اسكبوا دمعة سخيّة على جبينه الوضّاء،دمعة في لون اللؤلؤ،واكتموا الصرخة المدوية كالرعد في كهوف الرّوح..
وداعا.."سي محمد البدوي..يا أستاذنا الجليل"
محمد المحسن
*المنستير : موطن الفقيد رحمه الله
**يُعد الراحل محمد البدوي من أبرز المثابرين في المشهد الأدبي بتونس منذ أكثر من 40 سنة فقد كان منتج برامج أدبية بإذاعة المنستير من أبرز هذه البرنامج نذكر "محراب الكُتّاب" الذي خصصه للتعريف بالكتاب التونسي و "واحة المبدعين" الذي اهتم باكتشاف المواهب الأدبية.
تم اختيار البدوي ليكون رئيس اتحاد الكُتّاب التونسيين (2008-2014)، وهو علاوة عن كل هذا أستاذ جامعي بكلية الآداب بسوسة ورقادة بالقيروان، متخصص في اللغة والآداب العربية وقد اهتم في أطروحته للدكتوراه بأدب الأطفال.
وبالاضافة إلى ذلك أسس دار النشر "البدوي للنشر" ثم دار" ابن عربي".
صدرت له جملة من الأعمال من بينها:
- 1993 أوهام العقاد في العبقرية، دار المعارف سوسة
- الأرض والصدى دراسة عن رواية «الأرض» للشرقاوي - دار المعارف سوسة 1997
- الفينيق دراسة لرواية تلك الليلة الطويلة ليحيى يخلف، دار المعارف سوسة 1997
- المنهجية في البحوث والدراسات الأدبية، دار المعارف سوسة 1998
- المنستير أرض من تونس (تعريب كتاب قويدو مدينه بالاشتراك مع محمد صالح مزالي) 1999
- تراجم المبدعين في ولاية المنستير دار المعارف سوسة 2001
- تراجم المؤلفين والمبدعين في ولاية سوسة 2005
- مرآة الأحوال أول جريدة عربية في لندن 2006
- ذاكرة وذكرى ،حمد العابد مزالي بين الأدب والتعليم2006
- القيروان بأقلام الشعراء.
وقد أشرف محمد البدوي على إعداد ديوان الثورة وهو من منشورات اتحاد الكتاب التونسيين، كما كانت له مشاركات عديدة في كتب جماعية وإصدارت نقدية وفي الملتقيات الأدبية والثقافية في تونس والعالم العربي.
إنّا لله وإنّا إليه راجعون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق