الأربعاء، 13 أكتوبر 2021

قراءةٌ في الفصلِ الأوّلِ للدجّالِ، للروائي التونسي شوقي الصليعي . بقلم الناقدة سهيلة بن حسين حرم حماد

 قراءةٌ في الفصلِ الأوّلِ للدجّالِ، للروائي التونسي شوقي الصليعي .

======
=========
فصل الشّاعرة :
فصلُ الشّاعرةِ، شاعريٌّ عذبٌ مكتظٌّ برؤًى وأحلامٍ و بجميعِ أنواعِ الفنونِ من الشّعرِ إلى عِلمِ الخرافةِ والأساطيرِ ومَنشئِها اليونانِي، إلى المسرحِ الدرامِي والرّسمِ والنّحتِ- في "فارعةٍ كالتّمثالِ "- والأغنيةِ و الصُّحُفِ والمقالةِ، مع الإشارةِ إلى تفاعلِ الجمهورِ العريضِ، إلى جانبِ أسماءِ الأعلامِ رغمَ كثرتِهَا إلّا أنّ الرّوائِي، أحسنَ توظيفَها بشكلٍ لافتٍ... وسط أفعالِ الحركةِ وسحرِ البيانِ والتّبيانِ، وفصاحةٍ وبلاغةٍ فيّاضةٍ للمعنَى، متعدّدةِ الصّورةِ، من شدّةِ الإيقاعِ والصّخبِ، تخالُها ملحمةً، تكادُ تستَمعُ فيهَا لقرقعةِ حوافرِ الخيلِ، ترقصُ على قعقعةِ السّيوفِ وعلى تلاطُمِ أسماءِ الأفعالِ والمصادِرِ،" بين مادحٍ وقادحٍ " و"متحاملٍ نَزقٍ" و"ناقدٍ" و"ناقدةّ" و"شاعرٍ" و"شاعرةٍ ورسّامةٍ تلك التي ذكرها معرَّفةً"والرسّامةُ الشّابةُ " وغيرِها ... بين ميوعةٍ، ومكرِ تلاعبٍ بالكلماتِ، تتضارَبُ في الذّهنِ صورُ المعاني، فيختلطُ المعنَى لدى المتلقِّي، فيحتارُ في تفسيرِ اللّفظِ الواحدِ أيأخذُ المعنَى الأوّلُ أمِ الثّانِي للكلمةِ؟ وهلْ يعتبرُ مثلا لفظَ (نرجسيّةً) مدحًا ماكرًا، أو هجاءً، وسبًّا مباشرًا؟. فبينَ مديحِ مادحٍ وغزلِ متغزِّلٍ بغزالٍ، يهيمُ المتلقِّي بين الأمسِ واليومِ والغدِ ...
في زمنٍ سابقٍ استرجاعٌ حيثُ كان الخِطابُ دائريًّا، نواتُهُ سيادةُ الرئيسِ، والجمهوريةُ جمهوريةُ البيادقِ، تتأرجحُ فيها الرؤوسُ كما الكؤوسُ... كما تتأرجحُ المقالاتُ بين مديحٍ مبالغٍ فيهِ مقزّزٍ، سرعانَ ما تنقلبُ نقديّةً لاذعةً جارحةً... بمجرّدِ أن أبدتِ المتغزَّلةُ بها امتِعاضًا.. يتوقّف الزّمن فاسحا المجالَ للوصفِ... فيستحيل العمقُ مسمارا بعد أن يُفرَغ من معناهُ المتعارَفِ عليه ليستعيرَه المجازُ ليُدَقَّ في خشبِ النّعشِ حاضرا مضارِعا "تُدقُّ"... كما تُجسَّدُ الطّموحاتُ لتُؤنسَنَ جثّةً هامدَةً مكفّنَةً، احتواهَا نعشٌ مساميرُه تُدَقُّ " عُمقٌ، عُمقٌ، عُمقٌ"، في نعشٍ لتَدفِنَ أحلاماً ...
وتَشنُقَ صاحبتُها نفسَها... لتلتحقَ بالموؤودةِ بإرادتِهَا كأنّها بذلك تُحقّق حرّيتَها ثأرا لكرامتِها بحثًا عن العُمقِ الذي ظلّتْ طريقَهُ في الهنا... فلحقتْ به إلى (الهناكَ) علّها تشربُ من كأسهِ، فتروِي عطشَها من مفهومٍ غابَ عنها في الهنَا... ليُجسِّدَ ثقافةَ الحرقِ والانتحارِ، التي استفحلتْ وانتشرتْ بعد الثّوراتِ العربيّةِ، مضيفًا إليهَا فعلَ الشّنقِ... كآخرِ حلقةٍ تربطُها بالزّمنِ الدّائرِي... وآخرِ عِقْدٍ وعُقدةٍ تذكّرُها بالنّظامِ ...
جَماليّةُ النّصِّ ولذّةُ شاعريّتِه أسكرتْنا أنستنَا أنفسنَا ..
حَدَثٌ وموقِفٌ، قد يبدُو للكثيرينَ بسيطاً.. لو انتزعناهُ من ضجيجِ زَخْرَفةِ الأديبِ ومِخيالِهِ، إلّا أنّه صاغهُ بطريقةٍ ماتعة، كما صدّرهُ بمقولةِ أُوكتافيُو باثْ "بينَ ما أرَى وما أقولُ وما أبقيهِ صامتًا، بينَ ما أبقيهِ وما أحلمُ به، ما أحلمُ به وما أنساهُ ، ثمّتَ الشِّعرُ " وأزيدُ ثمَّتَ أيضًا رؤيةَ الأديبِ، رؤيتُهُ للأشياءِ في لحظةٍ زمانيّةٍ معينةٍ، نتيجةَ ثقافةٍ ومخزونٍ فكريٍ، وشعوريٍّ ذاكَ الذي يُترجمُه الشِّعرُ ليَتشكّلَ نصًّا أدبيًّا..
كهذا الذي صُبغتْ مشهديّتُهُ بتكنيكِ رسمِ الحروفِ، بريشةِ رسّامٍ قديرٍ بارعٍ، أبدعَ في اختيارِ الألوانِ، وفي بثِّ الحياةِ في متنهِ هذا، بنفثِه منْ روحِ الشّعرِ وسحرِ بيانهِ وتبيانِه، فزادهُ حُسنُ انتقاءِ اللّفظِ وتزويجهِ لِسِتِّ الحُسنِ، التي تليقُ به، رونقا وحسّا عاليَ الجودةِ، فأنجبَا فصلا مفصّلا تفصيلا دقيقا، موزونا بميزانِ فنّانٍ ضابطِ إيقاعٍ، عازفٍ، عارفٍ بخاصيّةِ كلّ النّغماتِ، و الألوانِ في تناسقِهَا، وتناغُمِها الدّاخلي والخارجِي وتمازُجِها في مكرِها ودَلالِها ومخاتلتِها، مع الحفاظِ على لذّةِ النصِّ وشاعريّةِ المعنَى، وخاصّيةِ المبنَى، في جماليّةِ روعةِ إتقانِ فنّ استعمالِ الاستعارةِ المكنيّةِ المجازيةِ، ووقع المحسّناتِ البديعيّةِ المُزخرفةِ كالجناسِ والطّباقِ والمرادفاتِ والأضدادِ مع التّرصيع ببيتٍ من الشّعرِ تارةً أو بعنوانِ أغنيةٍ تارةً أخرى، ثمّ تضمينِ مثلٍ فرنسيٍّ معروفٍ، أو بإدراجِ مقولةٍ للفيلسوفِ شوبنهاور ..". خيالي هو أنا " لشدِّ أزرِ التّصديرِ لمزيدِ التّنبيهِ، كإشارةٍ ضوئيةٍ، وأيقونةٍ دلاليّةٍ، بأنّهُ هُوَ (الهُوَ).... أيْ أنّ شاعريّةَ النصِّ وخيالَهُ ماهي إلَّا صورةُ الرِّوائِي ... ليصبحَ الفصلُ فصلا موقّعا بإيقاعٍ كونيٍّ...جماليّتُه نابعة من روحِ كاتبِها.
ليؤثّثَ لنَا فصلًا متكاملَ البناءِ والأبعادِ، متماسكًا يشدّكَ من البدايةِ إلى النّهايةِ، بوصفٍ البيئةِ، وصفٍ دقيقٍ، شاعريٍّ، وِفْقَ ما يتطلّبُهُ تنامِي الحكائيّةِ، في حبكةٍ و غزلٍ وتكثيفٍ، يأخذُ بعينِ الاعتبارِ ربطَ الشّواهِدِ بمنطقِهَا، مع إحكامِ تأثيثِ التّفضيةِ في أبعادهَا الرّباعيّةِ برمّتِها، حافلةً بالرّوائحِ، والأصواتِ المختلفةِ، كالصّوتِ الذي يحدثُه الاستنشاقُ، والمضمضةُ، وقهقهاتِ المتنزّهينَ، وتقلقلُ المراكبِ الرّاسيةِ بالميناء، وزمجرةِ أمواجِ البحرِ ومكرهِ وإطاحتهِ بالجميلةِ الحسناءِ، وبرائحتهِ التي تفوحُ من الأجسادِ العاريةِ، التي أحسنَ تصويرهَا بعدسةِ كاميراتِهِ، تلكَ العدسةِ المتحرّكةِ على حسبِ نسقِ السّردِ، فتُضخِّمُ المشهدَ أو تُقلّصُهُ، تماشيًا مع أبعادِ الحكائيّةِ الدّاعمةِ لموقفٍ أو بقصدِ السّخريةِ، بغرضِ شدِّ وتحفيزِ المتلقِّي، لجذبِه بغايةِ التّأمُّلِ ورجِّهِ للتّفاعلِ معهُ، لنسجِ نصٍّ يتعالقُ معهُ... لتلاقُحِ الرّؤَى والتّفاعُلِ من أجلِ التّغييرِ وإيجادِ واقعٍ آخرَ ..
اتحدَ الزّمكانُ فتقاربَا وتلاحمَا، وتلاصقَا،وتفاعلَا، فتولّدت عنهمَا أزمنةٌ آسرة أخّاذةٌ، بين الماضِي والحاضرِ و المستقبلِ جيئةً وذهابًا استِرجاعًا لتَذكُّرِ حادثةٍ أو مواقفَ أو وقفًا، بغرضِ وصفِ ذواتٍ مكلومةٍ، في (الهنا والهناكَ)، متشابهةٍ شخوصُها في القلقِ والضجرِ والمللِ .
راسِمًا المكانَ في شكلِ لوحةٍ فاتنةٍ غرائبيّةٍ، سِرياليّةٍ، موغلةٍ في التَّهويمِ، محتشَدَةٍ بجنونِ عبقريَّةِ الرّوائِي الذِي أخذنَا إلى عوالمِه السّحريةِ، حيث اجتمعتِ الحياةُ.. والموتُ... كذلك العبثُ.. مُشكِّلَةً عبثَ الضجيجِ.. والوجودِ.. والوجوديّةِ.. فكان الفصلُ انعكاسًا لجنونِ أديبٍ لهُ، من الخيالِ ما يحتّمُ على القارئِ إجباريةَ وضعِ حزامِ الأمانِ، تحسّبًا للمطباّتِ، لضمانِ سلامةِ الرّاكبِ طيلةَ الرّحلةِ الخارقةِ لحدودِ المكانِ والزّمانِ، التي يُتوقّعُ منها السّحرُ مخافةَ السُّكرِ من لذّةِ فِخاخِ القصِّ ومكرِ السّردِ، بين مدٍّ وزجرٍ، وسرعةِ جريٍ، وكبحٍ فجائيٍّ خِشيةَ الارتطامِ بمقودِ السيّارةِ ساعةَ الولوجِ إلى عوالمهِ المختلفةِ في جغرافيّةِ شخوصهِ وطُقوسهم...
لتكتمِل لنا الصّورَةُ التي ابتدأها بالفصلِ الأوّلِ للرّوايِة بعنوان الشّاعرةِ ...
لم أستطع بعد قراءةِ الفصلِ الأوّلِ ألا أتفاعلَ مع النصِّ، فالنصُّ كان على غايةٍ من الإتقانِ والبهاءِ ذكّرني بتلك الرّواياتِ العالميّةِ من حيثُ الاعتناءِ بالبيئةِ وبتقديمِ الشخصيّةِ أو الشخصيّاتِ لوضعِ القارئِ في الإطارِ العامِّ لنقلهِ عبرَ التّخييلِ إلى مسرحِ الأحداثِ حيثُ تُدارُ الحكائيّةُ والرّوايةَُ.
لتكتمِل لنا الصّورةُ التي ابتدأهَا بالفصلِ الأوّلِ للرّوايةِ
سهيلة بن حسين حرم حماد
تونس8/10/2020
Peut être une image de Souheyla Hammed

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق