الثلاثاء، 8 يونيو 2021

القيدومـــــــــــة /فتحي عبد العزيز محمد/جريدة الوجدان الثقافية

 


القيدومـــــــــــة ..

ــ
" أصبحت مزعجة
أحضن صباحي على قلته
وأخرج من بين جملتين
أقول كل شيء في ارتياب
وأخاف من لغة تكذب
تجر فعلي إلى ضمير غائب! "
" سهيلة_بورزق "
ــ
" في البدء شيءٌ من الزعل ـ وعلى إثْر ذلك حب كبير؟ على هذا النحو يحصل الانفجار من احتكاك أعواد الثقابِ."
نيتشه Nietzsche
-1-
ذاك اليوم كان أكثر من عادى , ونحن نتحلق بالفرجة حول " الضمنة " القوية الشديدة التنافس .. , بين أعضائها الالداء الملتزمين من المدمنين والمغرمين , وعشاقها الكثر من جمهور الرواد المتعصبين المتفرجين وعابري الطريق بالجانبين , وسط برندات الاعمام الترزية " هاشم " و" الضو " بسوق الشجرة القديم بحي " أبروف " العريق والذى يجاور ساكنية مجري النيل بتلقائية ومباشرة على عدة خطوات من البدايات الاولى لشارع النيل الطويل الذى يبداء من هنا وينتهي عند قاهرة المعز , والذى يتميز عادة بالهدوء والشاعرية الموحية ونسائمه الغامرة وأشجارة الضخمة الوريفة الظلال , ومناظرة الطبيعية الساحرة الخلابة الممتدة وعلى طول الضفاف , غير أن حقيقة أمر ذاك اليوم لم يكن على الاطلاق عاديا بالنسبة لـ " ودالشيخ " .. , وعندما تنحنح بعد طول صمت وترقب ليفاجئنا بمفاجئة داوية من العيار الثقيل , وبتقديم دعوة مفتوحة لكل الحضور من الأصدقاء والمعارف بالتشرف بالمشاركة يوم الخميس القادم وفى مراسيم زواجة الميمون الذى لطالما انتظرناه طويلا وبفارق الصبر .
أذكر تماما بأن الليل كان فى أولة وعندما باغتة على حين غرة مداعبا , وبسلاطة لسانى المجبول عليها دائما .. , لا أدرى حقيقة أذا ما كنت مشاكسا ..أو متلاعبا , وعندما قلت لة مازحا ومداعبا وبقدر كبير من الادعاء والخيلاء :
ـ " مبروك مقدما .. ولكن يا" ودالشيخ " يا أخوى أتلومت تب ..نحن أولاد سوق االشجرة الجد .. جد .. , ما بنتعزم كدا ..حرم نحن أسياد بلد كدا عديل .. زيكم وأكتر ...وأنت ما جديد علينا ..؟؟اا ..
ـ وثانيا أنت عارفنا كويس وذى جوع بطنك .. لوماعزمتنا يا أخوى للـ " قيدومة " العرس ما بنحضروا من أساسو .. ولا شنو يا جماعة الخير ؟؟اا " , أى أنة يقصد بالقيدومة تلك الليالي الملاح التي تسبق ليلة الحنة والعرس ,والتى يحتفل فيها أصدقاء العريس أحتفالا خاصا بة لتوديعة العزوبية ولدخولة لمعترك الحياة الزوجية وبأوسع أبوابها .
فجأة لا أدرى من أين ؟ وكيف التقط ؟؟اا , " حامد المتشبر ", طرف الخيط أوالحديث ليكيل لة هو الآخر اللوم والتقريع .. وليضعة أمام الامر الواقع .. قائلا بكل ثقة :
ـ " على الاقل يا أخى نتعرف أكثر على أخوانك وأهلك .. ومعرفة الرجال عندنا كما يقولون غنيمة .. , ولا كلامى دا أعوج يا ناس ؟؟اا " ليواصل وبقدر كبير من الدعابة المحببة قائلا :
ـ " وحتى لانكون ياخى ... كالطرش فى الزفة .. , أنت العريس غارق فى العسل .. ونحن المتاعيس غرقانين فى النسيان ..
ـ ولا شنو ياجماعة الخير ..اا " , يومها فقط ضحك " ودالشيخ " بعنف وكما لم يضحك من قبل .. , ثم تنحنح بجدية لاتخلوا من المكر والدهاء , الذى طالما عرف بة وفى نواحى سوق الملجة والعناقريب ..وقال :
ـ " بالحيل وهو كذاك يا جماعة الخير .., وحرم أنتو ناسى وأهلى .. ومن أسع معزومين كلكم .. وجهزوا نفسكم ورحكاكم معاى ..
ـ فحسب عوايدنا هناك فاليوم أول ليالى القيدومة المفترى عليها .. " ثم اردف قائلا :
ـ " وباللة يا" ودفؤاد " ويا " طارق " و" طلال " يا أخوانى .. وعشان ما تقولو لى ماكلمتنا وما جيهتنا ..
ـ أنتو وأى وأحد تعزموا معاكم .. تجونا وكل واحد خاتى ليه شنو ..
ـ " سكينة " فى ضراعو .. والدنيا ما معروفة .. وقبيل جدنا الاغبش شن قال ..
ـ " قال السكينة بتحفظ الرجل .. ولا شنو يا جماعة ؟اا" .
تبادلت حينها النظرات مع " طلال " وأنا أهمس له :
ـ " الشىء شنو .. أصلنا معزومين لعرس ولا لحرابة ؟ " , قال لى :
ـ " أنت شفت حاجة يا " ودفؤاد " يا أخوي .. والله الناس .. الماشين عليهم ديل العرس والحرابة عندهم شىء واحد .. وحتشوف كلامى دا براك .. اا " .. .
-2-
أخذنا بالطبع " ودالشيخ " فى معيتة ورفقتة المامونة الجانب .. ذاك اليوم السعيد الفريد ونحن نطوف معة حول موائدهم العامرة , وفى كل حدب وصوب ..بمناسبة الاحتفاء بالعريس وأصدقاءة وزملاءة المقربين , حقيقي فقد كان كرمهم كرما حاتميا بمعنى الكلمة .., منقطع النظير وقل أن تجد لة مثيل وفى كل هذة .. الوسيعة .. , وما أن علموا بأننا أصدقاء "ود الشيخ " الاوفياء الخلص .. , وما جئنا متجشمين الصعاب من " أبروف " و" الثورات" , الا لمواجبتة ومشاركتة الفرحة بين أهلة .. حتى أكبروا ذلك الاعزاز والاخلاص .. , فهبوا ليفتحوا لنا بيوتهم وموائدهم بصدررحب وكرم يعجز اللسان عن وصفة .., فكانت الفرحة فرحتين ليقول قائلهم والذى لم اتبينة بعد :
ـ " أنتو أصدقاء العريس " ود الشيخ " وخلانة .. واللة تب بردنا .. والله أنتو الليلة على الراس والعين .. " , ثم يتبادلون الحديث فيما بينهم ليقول فجأة " ودالعطا " كبيرهم :
ـ " ديل أولاد امدرمان والثورات .. والله أنتو الليلة ضيوفنا تب .. وما بتقبلوا صاديين .. تانى لاهلكم بعد أنصاص الليالى .. وبيوتنا الليلة كلها .. حرم مفتوحة ليكم .." .
كان أحتفائهم الخاص بالعريس يمتد وحتى الهزيع الاخير من الليل .., عزف وطرب وحبور والكل .. يشارك بطريقتة الخاصة ومجالسهم مفتوحة على مصرعيها .., للدانى والقاصى من الزوار المدعوين والمشاركين .. وفى صخب منتظم لدرجة الفوضى .. , والغريبة مع كل ذلك وعندما يرتفع صوت الآذان بالتنبية ينفض سامرهم ويهرعوا زرافات ووحدانا لتلبية النداء .. , وأذا نظرت للصفوف فى المسجد .. فألكل حضور ولم يتغيب أحد ,, عن صلاة الصبح .. , لتهوى بعد ذلك مباشرة صوانى الشاى والزلابية من كل حدبا .. والقهوة والخبائز من كل صوب .. , واصلين بذلك الليل بالنهار لينفض مجلسهم .., على موعد أن يلتئيم سامرهم ليلا .. وفى ليلة احتفائية أخرى من ليالى القيدومة , هكذا وطيلة فترة العرس .. التى قد تمتد لايام وليالى ويورخون لها حسب عادتهم المتبعة .. , والويل ولمن يتخلف وفى مثل هذة المناسبات .. فلاتقبل بتاتا الاعزار ومهما كانت .., ولا مسامحة أبدا فى مثل تلك الامور والمواجبات .. فأخوانياتهم صارمة كالسيف لاتلين لكائن من كان " والكبير عندهم .. " جمل الشيل وبس .." , حتى أنت الغريب والضيف يشعرونك بينهم بالامان وبانك وأحد منهم ولافرق , .. وهم رجولة ونخوة وحمرت عين أذا مال الحال .. , وهكذا عندما تعرفت عليهم وعايشتهم ,, .. بل يتميزون بتفرد عجيب, يجمعون فى آن وأحد .. تقريبا بين لين العريكة والقسوة الفجة .. , والادهى من ذلك لايبالون حتي وبتقاسيم الاقدار وتصاريف الدهر .. , ويستعدون للنوازل فيتقبلونها بطيبة خاطر ورحابة صدر أبتغأة لمرضاة الله .., وبعدها ما خطرت فى بالى ذكراهم العطرة الا .. وكان " نائل ودعباس" هو دون غيرة حضورا دائما .., رغما عن رحيله المبكرعن دنيانا الفانية راضيا مرضيا .. أذكرة عندما كان يعمل مساعد فنى بلواء الاقتحام كررى.., فهو معروف ومن صميم أولاد المنطقة وأهلة يتمددون ومن هنا لـ " صالحة " و" جبيل الطينة ".. , كان شابا خلوقا ومتميزا فى كل شىء .. , لا يذكرة أحد الا وتذكر الطيبة والكرم والنخوة ., وأمثالة حقيقة فى هذة الدنيا الفانية قلة , وهم كالريح الطيب يذهبون عن دنيانا خلسة وبلا وداع .., ولم أكن حينها أعلم بانة وفى الحسبة من أقارب " ود الشيخ " من ناحية الاعمام , فهذا يسكن مربعات أبوسعد الجديدة وهذا يسكن ابوسعد (الشلقة ) .. حتى ذاك اليوم وبالصدفة وحدها , يجمعنا المشوار من مركز التدريب الموحد بجبل أولياء لامدرمان .. ولم يكن هدفنا سواء تقضية بعض الوقت بالسوق الشعبى والذهاب لكررى .., أذكرة وهو بالطبع وأسطت عقدنا الفريد فى عصرة .. وبحضورة الطاغى الشيق والمميز وكأن اليوم كالبارحة .., لم يتغير شىء من أكتناز العشرة والمعزة .. وترحابه المفرط , ليجمعنا كلنا وفى لحظة تجلى منقطعة النظير .. , ويصر أن يأخذنا فى معيتة والى أين .. يا رقييــق الحال ..؟؟اا , يقول :
ــ " أنتو حرم معزومين اا ", نساله :
ــ " معزومين من مين ؟ ولى وين ؟ ها أزول ؟؟
بكل بساطة وعفوية يدلقها أمامنا .. :
" حرم لاهلى ونسابتى فى " أبوسعد " .. عندكم مانع أو أعتراض؟ ,
بطرف خفى أنظرالى عددنا فهو ليس بالقليل .., يحلف علينا :
ـ ".. يا أخوانا ما تحرجونا .. وحرم ما تشترو أو تاخدو معاكم أى حاجة .. " ليواصل :
ـ " حرم خير الله كتير ومفضل .." , ثم يواصل مضيفا :
ـ " وبالمناسبة ما تستغربوا نحن كدا.. ما عندنا مواعيد ليعزمونا ونعزمكم ..
ـ نحن عادتنا .. طوالى بنعزم نفسنا وبنفسنا .. كدا وعلى كيفنا ..ومزاجنا ـ " .. ثم .. ديل أنفسهم أنتوا قائلنهم منو .. غريبين على .. ديل ما نسأبتى وأهل خطيبتى " نوال " , وأولاد عمى لزم .. تانى فى كلام ؟اا " .
😚
ذلك اليوم أسر لى فى أذنى دونهم كلهم قائلا :
ـ " يا " طلال " يا أخوى الليلة قلت أعرفكم بأهل خطيبتى وبنت عمى " نوال " قبل سفرى , ملحوق باستخبارات الفرقة الاولى " جوبا " , ..
ـ " قلت كمان الليلة أزورهم وأودعهم والموت والحياة ما معروفة ولا شنو ..يا أخوي ؟ " , وللحقيقة فأن حفاوتهم وبشاشتهم لنا تلك الظهيرة لاينكرها الا جاحد .. , ورغم الظرف الطارئ وعدم أستعدادهم لزيارتنا لهم المفاجئة , فقد حملونا وبصراحة على كفوف الراح .. , كرم .. وأحترام وتقدير منقطع النظير .. .
ثم أفترقنا .. وهكذا هى الدنيا كما يقول أهلنا .. , تجمع لتتفرق ثم تفرق لتجمع , أما موعدنا الآخر فكان بعد زمنا طويلا بعيدا , أن نلتقى فى مناسبة أخرى مختلفة وسارة بعض الشىء .. , غيرمخطط لها ولكن نفس شلة المزاج والانس والطرب , ونفس الظهيرة القائظة .. تجمعتنا صدفة ..وربما صدفة كما يقولون أصدق من ألف وعد .. ووعد , والمناسبة كانت مدهشة ومزهلة , وهى وداع صديقنا المشترك " ودفله " المغترب الابدى , وفى غمرة أنشغال الكل .. باحاديث جانبية لاتخلو من المجاملة واللوم .. , وبطريقة عفوية . فجأة أتذكرة هو من دونهم كلهم ولا أحد غيرة ..,وأتذكر حتى كل من كانوا معنا بالامس القريب فى تلك الجلسة الفريدة المشهودة واحدا ..واحدا .. , وكأن الغربة قد أنستنى بأنها ذكريات لاتعد بالايام والشهور..وأنما هى تمتد بضع سنين لاتكاد تعد على أصابع اليد الواحة .., وانا لا أدرى .. كيف مضت هكذا سراعا ..ولا أدرى لماذا أصررت على أن أدلقها امامهم وبعفوية .., وبدون أدنى كياسة أوتحفظ ..وانا خالى ذهن تماما .., لالتفت فجأة متسالا :
ـ " يا " ودالحاجة " يا أخوى .. وين صاحبكم الحبوب لاعب " قلب الاسد" و" العباسية " , ... " نائل " ودعباس سيد الناس ؟.., أضحيت فجأة كالمحتار..أو كما الذى القى حجرا فى بحيرة راكضة .. أومن القم مجلسهم العامرأو البيت كله بحجرا نيزكيا ملتهبا .., لا أدرى كيف أصف تبدل حال الكل .. تقريبا الى النقيض .. حتى حاجة " رجبية " , مع ضخامتها وقوة شكيمتها من يدها سقطت اكبر كمشة عرفتها نواحى العباسية كلها .. ومن بنتها " الطاف " , سقط طقم صحون الصينى الوحيد وتكسر قطعة .. قطعة على سيراميك المطبخ .. , لياتى فجاءة صوت " عوض تية " , معنفا وغاضبا من حيث لاادرى وهو يلومنى .. , وأنا لا أدرى بالضبط ما هو ذنبى أوجريرتى وما الذى قلب هكذا الاوضاع راسا على عقب .. قائلا وهو يؤبخنى بصوت مسموع :
ـ " بالله عليك أتلهي وأسكت .. وشوفوا با جماعة الزول دا بفلت كيفنهو .. وبقلب على الناس المواجع " وأنا حقيقة أصبحت فى حوسة ليواصل :
ـ " الزول دا لى أسع ما عرف ولا شنو.. ؟؟اا ", ياتى صوت أحدهم :
ـ " الزول دا ما عرفين أنو .. كان مسافر ومغترب بالسنين الطوال .." , بعدها ينتحى بى " ودشنتور " جانبا ليهمس :
ـ " يا أخوى " ودنائل " الجبته سيرتو دا .. الله يرحمة مات شهيدا فى الجنوب ..الاستوائية , وليه ثلاثة سنين وبعد سفرك تقريبا بشهرين .." .
يتبع "2" ,,,
فتحي عبد العزيز محمد
السودان ـ دنقلا ــ السليم ـ قسم " 2" شمال

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق