السبت، 26 يونيو 2021

حين تتنقّل "كورونا" بين دواوين الشعراء..وقوافيهم..! بقلم الناقد والكاتب الصحفي محمد المحسن

 حين تتنقّل "كورونا" بين دواوين الشعراء..وقوافيهم..!

تصدير : الشعراء لم ينقرضوا أبدا..فدائما هناك أبناء وأحفاد يظهرون من مكان بعيد حاملين باقات الورد والحزن لوضعها على قبور الآباء والأجداد.
قد لا أجانب الصواب إذا قلت أنّ جائجة كورونا اللعينة تعد مأساة عالمية إذ مازالت تحصد الأرواح بالتقسيط وبالجملة،وتثير رعبًا حقيقيا تعطلت معه دواليب الاقتصاد العالمي،وفترت أنشطة السكان على نحوٍ غير مسبوق،فيما تمّ إلغاء جميع المهرجانات الثقافية والفنية إلى إشعار آخر..
ولكن..
لطبيعته المتفاعلة مع الحياة وانفعاله بالقضايا الإنسانية، لم يكن غريبا على الشعر أن يفتح دفاتره لتنتشر فيها جائحة فيروس كورونا المستجد، فالشعر لا يحسن الوقوف بعيدًا على مسافة آمنة.
والسؤال الذي ينبت على حواشي الواقع:
بأي طريقة يعبر الشاعر عن مثل هذا الوباء المبيد..!؟
في كتابه الذي يحمل عنوان "الشعر والعقل.. منهج للفهم"،يجيب الأديب السوري حسن عبد الرازق منصور بأن الإنسان يختار طريقة التعبير عن نفسه أو عن فكرته حسب ما تمليه عليه هذه الفكرة، "وإجمالا هناك طريقتان للتعبير،ومهما حاول الشعراء ابتكار طرق بديلة،فإنهم لا يخرجون عن نطاق هاتين الطريقتين"،مسميا إياهما "الطريقة المباشرة في التعبير،والطريقة غير المباشرة".
وهذا ما يظهر في النصوص التي اتخذت كورونا موضوعًا لها،بين قصائد تناولت الموضوع بشكل مباشر،وأخرى تناولت الظواهر الناتجة عن المرض والتحولات وتعاملت مع الموضوع بشكل يخلو من المباشرة.
ويذهب نقاد الأدب إلى أن الغرض الشعري من محددات طريقة الكتابة،فالشعر الذي يقصد به التوعية مثلًا لا بد له من الوضوح والمباشرة.
وقد كتبت في أغلب الأقطار العربية قصائد للتوعية والنصح،وكانت في غالبها باللغة المحكية، وقد تجيء فصيحة مثل قصيدة الشاعر التونسي عبد العزيز الهمامي :
فَلْتدخلْ بيتَكَ لَوْ تسْمحْ
العالَم مَوْبُوءٌ
وهَـوَاءُ الشّارِعِ يَـجْـرَحْ
المَنْزِلُ وَرْدتـك الأُولَى
وَمَكَانُـكَ فِي الغُرْفَةِ أَوْضَحْ
ما أريد أن أقول..؟
أردت القول أنّ الشعراء لم ينقرضوا أبدا..فدائما هناك أبناء وأحفاد يظهرون من مكان بعيد حاملين باقات الورد والحزن لوضعها على قبور الآباء والأجداد.
لقد كان الشعر دوماً وجهاً من وجوه الشجاعة، بل إن الكاتب الفرنسي فابريس ميدال يعتبره الشجاعة نفسها. بسبب من هذا رمزت الثقافة الغربية إلى الشاعر بشخصية أورفيوس، هذا البطل الأسطوري الذي اجتاز كل درجات الجحيم، غير عابئ بأهوالها، تحركه طاقة الحب للمضي قدماً إلى الأمام. تحيط به الحيوانات الكاسرة التي خضعت لسلطان عزفه وموسيقاه.
وفي خضم هذه الجائحة يمكن أن نضيف مع الكاتب الفرنسي: على كل شاعر حقيقي أن يجتاز الجحيم مثلما حصل مع أورفيوس حتى يكون جديراً بصفة شاعر.
وعندما نتحدث عن الشعر فنحن نتحدث عن كتابته وقراءته في آن.
القراءة، كما الكتابة، محاولة لكسر العزلة، باستدعاء أصوات تنتمي إلى أزمنة وأمكنة مختلفة. والقراءة، كما الكتابة، تبديد لظلمات المغارة، عن طريق أرواح الشعراء المشتعلة على الدوام. والقراءة أيضاً محاولة لتأثيث وحدتنا وبحث ممضّ من أجل الظفر بصداقات جديدة وإن كانت في عصور بعيدة وأماكن قصية، سفر إلى أماكن بات من الصعب الوصول إليها.
دعونا نَحيد عن الجدية ولو لمرّة واحدة،ونقول إنّ الشّعراء أكثر عرضة لفيروس كورونا من غيرهم من المواطنين وذلك بسبب (أو بفضل؟) عفويتهم التي تسبقهم،ومشاعرهم الفيّاضة التي يدلقونها أمام الغريب قبل القريب..
وعلى الرغم من تداعيات هذا الوباء اللعين،لا أحد يشك في إصرار الشعراء على التشبث بالحياة داخل القصيدة وخارجها،وعلى مدار الزمن وتغيّر الظروف والأحوال.شخصيا،لا أملك إلا أن أدعو لشعراء وشاعرات العالم الزمن الجميل والشعر الأجمل،وبأن يتغلبوا جميعًا على الفيروس الفتّاك كي يطلعوا علينا بقصائد عظيمة يخبرون فيها الأجيال القادمة،كيف ارتعبنا ولزمنا بيوتنا مكتفين بإطلالة خاطفة على القيامة التي تسير ميّاسة في الشوارع.
وإذن؟
متنوعة هي إذا،موضوعات الأدب،ولأنها كذلك لم تخل مما لا نحب،وكثيرا ما خرجت القصائد والقصص والروايات من رحم المعاناة الإنسانية،وأيقظ تفشي جائحة كورونا ذكريات العالم حول الأوبئة القديمة،
وعلى مرّ التاريخ البشري،ضربت الأوبئة الحضارات والمجتمعات القديمة منذ أول تفش معروف عام 430 قبل الميلاد خلال الحرب البيلوبونيسية (بين حلفاء أثينا وحلفاء إسبرطة).
ومن أشهر القصائد التي كان الوباء موضوعها قصيدة "الكوليرا" للشاعرة العراقية الراحلة نازك الملائكة،والتي اعتبرت بداية "الشعر الحر"،مما جعل شهرة هذه القصيدة تفوق قصيدة الشاعر المصري علي الجارم التي كتبها عندما ضربت الكوليرا مسقط رأسه "مدينة رشيد" بمصر عام 1895.
على سبيل الخاتمة:
تعتمل أسئلة الحب في جوف الشعراء وقصائدهم بين الهم العام والحب في زمن كورونا الذي صوره الشاعر المغربي نوفل السعيدي قائلا:
مرضَ الناسُ بالوباء مراراً ووبائي شوقٌ وسُهدٌ ونارُ
عالقا فوق حيرتي كيف أمضي؟ للتي بينها وبيني سِتارُ
وهنا أختم:
ما يحسبه المتلقي نظرة ذاتية تخص الشعر هي في الأصل نتيجة صياغات جماعية متعددة، وربما كانت في أوقات متفرقة..
وإلى أن تتجاوز البشرية هذا الوباء سيظل "الكوفيد" متنقلًا بين دواوين الشعراء وقوافيهم بما هو ديدن الشعر من تناسل للأفكار وتأمل في أشياء قد لا تستوقف غير المكتوين بناره.
من هنا تكون الكتابة في مثل هذا الظرف،شكلاً من أشكال المقاومة اجتيازاً للجحيم،أي تكون انتصاراً على قطبَي الألم والضجر اللذين تحدث عنهما شوبنهاور.
محمد المحسن
Peut être une image de Med Elmohsen

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق