الثلاثاء، 4 مايو 2021

حوار الأستاذة فتحية دبش مع الإعلامية الشاعرة مريم خضراوي في جريدة الصريح الجزائرية

 حواري للأستاذة

فتحية دبش

في جريدة الصريح الجزائرية

*********
الكاتب كائن معترض دائما ...يتحدى السلطة...والتسلط...
وما المرأة التي تتدثر بالكلمة وتتأبط الحرف الا أعظم مثال يكتب ويعترض ويتحدى وسط مجتمع تكابد فيه المرأة تحديات كثيرة ،بدءا بذاتها و حياتها الأسرية.. إلى مجتمع لايزال يعاني تناقضات وصراعات شتى....وضيفتي اليوم فتحية دبش كاتبة وناقدة تشهر قلمها وفكرها في وجه كل ما من شأنه أن يعمق الهوة بين الإنسان وأخيه،وبين الإنسان والمجتمع...فكريا وروحيا...
السؤال 1...فتحية دبش إبنة مارث) بالجنوب التونسي تلك الأنثى الموشاة بالحياء والعفة ،هل رمتك حياة الجنوب القاسية في حضن الكلمة هروبا أم تحديا...وهل رسخت الكتابة لبنت الجنوب فيك؟
-في البدء أتوجه إليك أستاذة مريم الخضراوي بالشكر الجزيل على هذه المصافحة.
من الجنوب الشرقي، من قرية تقع بين البر والبحر اسمها مارث، تاريخها حافل بالمفاخر وأشهر مفاخرها أن تأوي متحف الخط، خط مارث الحربي وتندس فيه حكايات الحرب والموت والحياة في آن.
كبرت في وسط ريفي تتوارى فيه النساء خلف ابتسامة خجولة ولكنه وسط يهدهد أطفاله حول المواقد بحكايات الجدات وكانت كل عجائز الحي جدات الجميع. وسط حين تقام فيه الأعراس تسمعين فيها ملاحم الشعراء وحين تقام فيه المآتم تلمسين فيها روح التآزر والإخاء. هكذا كان الكلام واللحن يموسق حياتنا في البيوت وفي الحقول وفي المدارس ومن هناك جاء شغفي بالكلمة.
لكنه شغف لا ينكتب في خط الطاعة بل في خط التجاوز والتحدي. فأنا، تلك الطفلة التي ترعرعت في الريف وفي الريف لا ترتاد البنات المدارس لوقت طويل وخاصة إن كن من عمق الريف. كان هناك سراج ما مزروعا على طريقي ويحاذيني ويقشع عن سماواتي كل ما من شأنه أن يعوق مسيرتي الدراسية فكنت طفلة مجتهدة وكان اجتهادي عن وعي كبير بأنه منقذي. كان هناك ضغط المجتمع على أبي وأمي بأنه ليس للبنات أن يرتدن المدرسة طويلا وكان ردهما: طالما هي متفوقة لن نفصلها عن الدرس.
هذا الموقف وإن كان يسعدني إلا إنه كان يمثل ضغطا وحافزا وقلقا... ماذا لو تعثرت في دراستي؟ الجواب كان يخيفني. ولذلك كنت صممت على التفوق وعلى المواصلة وكنت أجد في قصص التحدي غايتي. فكنت ألتهم الكتب التهاما وحين وصلت إلى المرحلة الثانوية شعرت ان القراءة لم تعد تكفي للإحاطة بذلك الخوف من التعثر وتلك الرغبة في التحدي- التي ما هي بالرغبة بقدر ما هي قدر - فكانت الكتابة. وصرت أحاول الشعر والخاطرة ودراسات النصوص...
هكذا جئت للكلمة لأنها منقذي من العدم. لكنها لم تحررني من انتماءاتي بل منحتني أجنحة أتأقلم بها مع الأجواء والسماوات والأراضي دون أن أخلع أمكنتي ولا ما يتعلق بها...
السؤال...2... الكاتبة السمراء سكبت سمرتها المتوهجة إباء في حروفها ..فدعمت سمرتها أم العكس؟...
_من المربك أن تستفيقي يوما وتدركين أن هناك شيئا ما يضعونك فيه ولا تدركين لماذا... كنت إنسانا وكبرت فصرت أنثى ثم كبرت وصرت امرأة سوداء ثم كبرت وصرت الكاتبة السوداء.
السمار مرتبة بين لونين لا أنتمي إليه. وسوادي أعيشه كما يعيش غير الأسود مع لونه. ولكن هذا اللون له حمولة تاريخية واجتماعية واقتصادية شديدة التعقيد. والوعي بذلك يحدث في العقل خلخلة وفي الروح رغبة في التمرد والضجيج وكسر القوالب. لعله هو سر التمرد في حد ذاته. سر أن أقول للآخرين إنكم مخطؤون... فقبل اللون وقبل النوع وقبل كل شيء هناك ال" أنا" ...
لا أدري إن كان لوني ما دعم قلمي أو قلمي ما دعم لوني ولكنني واثقة إنهما مني وإلي ويشكل كل منهما جزء مني ومن قضاياي ومن مشاغلي...
السؤال...3..التمييز العنصري ،جريمة في القانون...ترى إلى أي مدى أسهم تجريم التمييز العنصري في الحد من هذه الظاهرة الإنسانية ؟
-التمييز العنصري لن تنهيه القوانين. هذا هو مربط الفرس. إن سن القوانين يعني بالضرورة محاولة التصدي للجرائم. ولكن هل تنتهي الجرائم لأن هناك قانونا؟
التمييز العنصري ليس جريمة قابلة للتشخيص كالسرقة والنهب مثلا، ليس جريمة كالقتل، ولا هو جريمة كالاغتصاب... هو كل هذه الجرائم وغيرها مجتمعة. ولذلك هو جريمة صعبة التشخيص.
عندما يناديك أصدقاؤك ب: الشوكولاطة، العسل، الجوهرة السمراء أو السوداء أو غيرها... هي كلمات يتداولها الحميميون على شكل دعابة غالبا... ولكن حتى على سبيل الدعابة بقيت ذات حمولة سلبية لأنها تختزلك في لونك. ليس هناك فرق- لغويا- بين أن تقول الشقراء الجميلة وبين أن تقول السوداء الجميلة. ولكن الفرق في الحمولة الرمزية فإذا كان الاستعمال وقوانين الجمال متعلقة بالبياض فإن السواد متعلق في الموروث الثقافي بالقبح. لذلك يصبح المعنى من " العسل، السمراء، الشوكولاطة..." ضربا من محاولة التخفيف والمواساة. وهنا يصبح الكلام تعبيرا عنصريا تماما كان تقول" وصيفة، كحلوشة، خادم..." وفي مثل هذه الحال هل يمكن تشخيص العنصرية كجريمة؟ لا...
لذلك فالحل ليس في القوانين وإنما في التربية، في التعليم، في الثقافة، في الأدب... وهنا أريد أن أؤكد على وعي اللغة ووعي الفكر في كسر النمط وبناء آخر.
السؤال...4..فتحية دبش الأنثى التي نشأت في مجتمع أبوي،ذكوري.والسمراء التي تحدت بقلمها التمييز العنصري والتفاضل بين المرأة والرجل أراك تناضلين على درب دكتورة نوال السعداوي فماذا بينكما؟
-لا أضيف جديدا عندما أقول أن المجتمع الذكوري هو ما يصيرنا إناثا وذكورا بالمعنى الاجتماعي والثقافي أقصد. هناك الجانب البيولوجي الذي لا علاقة له بالثقافة وهناك الجانب الاجتماعي الذي له علاقة بالسياقات الثقافية. فالمولود ذكرا كان أم أنثى لا يتلقى نفس التنشئة بين مجتمع وآخر. وفي المجتمعات الذكورية تتحكم التربية والتنشئة في تحديد الكينونة. ومن ثمة ينشأ الذكر قواما على الأنثى رغم إن القوامة لا تتعلق بالنوع وإنما بالقدرة. ولكن هذا الشرط ينتفي مقابل النوع. فينشأ الذكر سيدا على الأنثى حتى وإن كانت هي الأقدر على إدارة شؤون الحياة.
الأبيض ينشأ في مجتمع ذكوري وعنصري على أنه السيد وينشأ الأسود على أنه العبد... وهكذا..
لذلك أعتقد أن الأدب واحد من أقدر النضالات من أجل ثقافة منصفة وأكثر إنسانية على غرار ما كانت تقوم به السعداوي في مصر وفاطمة المرنيسي في المغرب وغيرهما من صاحبات الأقلام في الوطن العربي الذي ما يزال محكوما بالذكورية رغم المكاسب التي تحققت للمراة وللرجل على السواء.
نشأت على أدبيات نوال السعداوي في المقررات المدرسية بالمرحلة الثانوية بتونس، كان ينقصنا وجه نضالي يشبهنا وكانت نوال السعداوي فنهلنا من أدبياتها النسوية دون أن ندرك إنها كانت بصدد القيام بثورة في الثقافة الذكورية ولا تزال حتى بعد موتها تثير الجدل.
بقطع النظر عن مستوى هذه الأدبيات فنيا فإن قيمتها كامنة في الفكرة والثورة التي أحدثتها في خلخلة النفاق الاجتماعي. وهنا أود أن أشير إلى أن الجانب الذي يهم القارئ في أدبيات السعداوي لا يتعلق بخياراتها الشخصية دينيا وإنما يتعلق بتلك المكاسب التي تحققت من خلال أدبيات السعداوي.
من المخجل أننا إلى اليوم نلاحظ إلغاء خيارات المرأة كأن نرى إلى حد الآن سيدات يمنعهن ذكور العائلة أو المجتمع من الظهور بأسمائهن الحقيقية مثلا على مواقع التواصل، يمنعنهن من وضع صورتهن الحقيقية. من المخجل اليوم أن يقع تزويج المغتصبات من مغتصبيهن، من المخجل اليوم أن تحاكم الضحية في حالات الاغتصاب بدعوى إنها لم تكن محجبة أو إنها لم تلزم بيتها... هنا نضال السعداوي بقي مستمرا وهنا نضالاتنا من أجل مجتمع متزن قائم على أساس احترام إنسانية الذات والآخر.
السؤال ...5... هل من حق الزوج أن يساوم المرأة ويخيرها بينه وبين الكتابة والإبداع..وكيف فرضت فتحية دبش الكاتبة وجودها في أسرتها؟
-الكتابة شأن خاص بمن يكتب. لا تهم الزوج ولا الأب ولا الأبناء. إنها شأن حميمي بنظري وليس للرجل كائنا من يكون مساومة الكاتبة لأنها زوجته أو أخته او أمه... المساومة تعني أن الضغط والاجبار على التخلي. وللأسف فإن كاتبات كثيرات يضطررن للتوفف عن الكتابة أو الانفصال عن الزوج. وفي الحالتين هناك عنف مسلط على المرأة الكاتبة.
في تجربتي الإبداعية مررت بفترة صمت دامت عشرين عاما. كنت فيها زوجة وأما وموظفة ونسيت فيها إنني كاتبة. كان ذلك تنازلا مني عن الكتابة وانغماسا في اليومي. عندما عدت للكتابة وتقلص وقتي الذي كنت أمنحه كاملا لأسرتي. كان ذلك سببا في بعض النقاشات الحادة التي كانت ضرورية من أجل خلق توازن جديد. أعدنا فيه توزيع الوقت والادوار.
عندما أكتب أكف عن كوني زوجة وأما وأختا وكل شيء عدا كوني كاتبة. أفتك وقتي من الزوجة والأم والأخت والصديقة والموظفة التي فيّ للكتابة ولبعض المشاركات كما أفتك وقتي من الكاتبة التي فيّ من أجل أن أكون زوجة وأما وأختا وصديقة وموظفة ووو .
إن معركة المراة الكاتبة ليست مع محيطها بقدر ما هي مع نفسها. عليها أن تؤمن أنها كاتبة وللكاتبة دور رمزي يتجاوز القوالب.
السؤال ...6..هل كانت المرأة المبدعة سيفا على رقبة مثيلتها طوال الوقت..
وكيف ترين الخلاص من فتور هذه العلاقة بين المبدعات؟
-نعم للأسف كانت المرأة المبدعة سيفا على مثيلاتها ولا تزال. ربما لأن حب الظهور جبلة في الأنثى، والغيرة تركيب اجتماعي مغروس في كل انثى.. لذلك نرى بكثرة محاولات الاقصاء أو التجاهل من جهة أو محاولات الرفع المبالغ فيه من جهة أخرى. في الحالتين على ضديتهما يكون المحرك شعور بالغيرة وحب الظهور. ولكن على المبدعات الايمان بأنه لا مجال للغيرة في الابداع. فكل نص له روحه وكل مبدع له بصمته وما يكسبه كاتب هو بالضرورة مكسب للجميع.
أما عن الخلاص فأعتقده سيأتي مع الوعي بخصوصية الابداع وبتوحد المرمى النضالي للكاتبات.
السؤال ..7...الناقدة فتحية دبش ؛حركة النقد مازالت تخضع لقوالب كلاسيكية جامدة رغم الحراك الإبداعي المتنوع...هل ترين في آلياتك كناقدة مخرجا من هذا الجمود وماهو مشروعك النقدي مستقبلا؟
-النقد متحرك بتحرك الابداع ولكن الناقد العربي محكوم بالقوالب وبحدود المدارس النقدية في إطار ثقافة منغلقة أحيانا. لذلك لا يغامر الناقد العربي كثيرا بكسر جمود النقل والانطلاق إلى تأسيس نظرياته النقدية. وهذا يعود إلى اسباب كثيرة. ورغم ذلك فإنني أرى ازدهارا في النقد وانفتاحا بالضرورة على أكثر المدارس إثارة للجدل كالتفكيكية مثلا إن جاز القول بكونها منهج او مدرسة.
أما عن نفسي فأنا أمارس النقد في ظل ما هو موجود من نظريات وفلسفات وأحاول بناء مشروع فكري يعتمد على تفكيك النص وإعادة بنائه او بالأحرى إعادة إنتاجه وكذلك فهم سياقاته ضمن مفهوم النقد الثقافي.
السؤال...8... الكاتبة المهاجرة فتحية دبش كيف ترى مستقبل الأجيال القادمة أبناء المهاجرين في وطنهم الأم وفي وطنهم حيث ولدوا وحيث يعيشون....؟
-هذا السؤال هو واحد من أسئلتي الروائية في ميلانين مثلا. هذه الأجيال التي لم يفهمها وطن الجذور ولم يفهمها الوطن الأم. فأبناء المهاجرين ليسوا مهاجرين والمعضلة تكمن هنا. هم مهاجرون في اوطان آبائهم ولكنهم في أوطانهم الأم حيث ولدوا ونشأوا. ولكن حساسية هذه الجزئية العميقة تصنع من هذه الأجيال ضحايا متعددين. ضحايا الهنا والهناك. ضحايا الوطن الأم وأوطان الجذور. وغياب استراتيجيات ثقافية بالأساس هو ما يسبب بعض هذا التشتت. يجب استيعاب اختلافهم وخصوصياتهم. ولا يمكن بناء مستقبل واضح إن لم يستوعب السابقون واللاحقون هذا الاختلاف الجوهري. نحن المهاجرون لاننا ولدنا في بلد لا نقيم فيه أما هم فمحليون إذ يقيمون حيث ولدوا وترعرعوا ويجب تخفيفهم من عبء هذا التمزق. فالهجرة خيار يجب استيعابه أيضا.
السؤال ...9.. الإعلام والإبداع الأدبي ،هل يجب أن يكون الإعلامي أديبا كي يوفق في خدمة الأدب؟
الإعلامي يجب عليه بالضرورة أن يكون مثقفا، مطلعا على الساحة الأدبية والفكرية مالكا لضرورات الحوار ليقدم خدمة للأدب.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق