السبت، 27 فبراير 2021

قراءة في نصّ (اعتراف) للأديب الشاعر البروفيسور مديح الصادق، من كندا. بقلم الأديبة منيرة الحاج يوسف، من تونس:

 قراءة في نصّ (اعتراف) للأديب الشاعر البروفيسور مديح الصادق، من كندا.

بقلم الأديبة منيرة الحاج يوسف، من تونس:
العنوان: اعتراف... عتبة النص ومفتاحه بل بابه الكبير المُشرع على قصيد كل سطر فيه هو العنوان، هو الاعتراف والإفصاح والبوح والمكاشفة، اعتراف قلبين اتحدا حتى صارا واحدا، اعترافه هو بما يكابده من ألم الوحدة، والبُعد، وقسوة الإطار الزمكاني، واعتراف الحبيبة بما به ثقل وجدانها؛ فعبرت عنه بطرق فريدة، مرة بالطلاسم التي تبعث بها إلى حبيبها، ومرة سؤالها عن الحال تورية وتقية، ومرات بصمت؛ حتى غدا ما خلف السطور أوضح للحبيب من السطور في حد ذاتها، فطالبها بأن يكون الاعتراف صريحاً علنياً؛ إن كانت تجرؤ، أو وشوشة وهمساً؛ إن خانتها الشجاعة، علَّها بذلك تنعتق من قيدها، وتتحرّر من حبسها، وتخفف من أوجاع قلبها.
يستهلّ الشاعر نصّه بتحديد الإطار، وما أقساه من إطار! فهو الليل بسواده ووحشته وسكونه، وهو ما يذكرنا بليل (النابغة الذبياني) في قصيدته: "وليل أقاسيهِ بطيء الكواكب"، وليل امرئ القيس في قوله:
"وليل كموج البحر أرخى سدوله
عليَّ بأنواع الهموم ليبتلي"،
أمّا نزار قباني فيقول:
"لم يبق في شوارع الليل مكان أتجول فيه
أخذت عيناك كل مساحة الليل"
في حين يعتبر محمود درويش الليل ذئباً:
"الليل- يا أماه- ذئب جائع سفاح
يطارد الغريب أينما مضى".
كثيرا ما نجد هذا التناصّ لدى الشعراء القدامى والمُحدثين على السواء في تعبيرهم عن قسوة هذا الإطار الزماني؛ باعتباره يضاعف أوجاعهم، وقد صرح الشاعر بمصاب قلبه، وحدد العناصر التي ترافقه:
"أنا، واليراع، وقلبي المكلوم... ووحدتي".
تتحول طلاسم حبيبته خمرة يعاقرها؛ فتُنسيه بعض آلام الوحدة وعناء الأشواق، ويتخذ الحرف دلالات جديدة؛ لأنه سبيل التواصل الوحيد، لذلك تكثّف حضوره في ذاته، أو من خلال ما يدل عليه: (طلاسم، أحاجي، خطابك، حرفاً، سطورك، قاموس، لغات)، ناهيك عن الأفعال المتعلقة بنفس المعنى: (أفقهُ، عنيتِ، أُدركُ، أُترجمُ، تعنيه، كتبتُ، يفسرُ)؛
هذا التكثيف يحيل على انزياح في المعنى المألوف لعلاقة الحبّ بين الحبيبين؛ فيحوله إلى علاقة إدراك، ويرتقي بالمشاعر من الحسّ والعاطفة إلى الفهم والمعرفة، يصل إلى حدّ فكّ الرموز، وقراءة المخفي؛
فتكون اللغة المفهومة بينهما هي الصمت، وهي وسيلتهما للتخاطب والنطق.
إذا حاولنا أن نستجلي صورة الحبيبة في هذا النصّ فسنرصد معايير مُغايرة لما ألفنا فيما وصف به الشعراء حبيباتهم؛ إذ يرتقي الشاعر بمعشوقته من خلال النداء؛ فيعتبرها مُنية الروح، وبلسم الجروح؛ فنفهم أن أنثاه ليست سوى المرأة الرمز، هي إله المعرفة والخصب، لا تُشبه فينوس في جمالها الجسدي؛ فقد سكتَ الشاعر عن وصف مفاتنها، ولم يتغزل بالعيون السود، ولا بالصدر الناهد، ولا بالشعر الفاحم؛ هي عشتار هذه الحبيبة التي منحته كل الرواء الروحي وأبدلت جدب منفاه سماء مطيرة تجود بما يُسعده، ويخفض لظى غربته.
تبدو الحبيبة في القصيدة بعيدة بُعد القمر:
"وأنتِ في داركِ، في أقصى البقاعِ عنّي"،
قريبة كالنبض في الوريد:
وجِيفُ مابينَ ضلعَيكِ ساعةَ تسمعينَ صوتي
تشبُّ حرائقُ في جوفِكِ
أعلمُ علمَ اليقينِ أنَّكِ حَيرى..."
يتردّد الشاعر العليم بخفايا حبيبته بين حلاوة الوصال، و علقم الفراق؛ لأنه مثلها يعيش ما تعيشه، ويشعر بما تشعر به؛ فهو مُفتتَن، مسحور، مأخوذ بجنون الشوق والتوق إلى التلاقي، رغم ما يحفّ هذه المغامرة من مشاقّ؛ فالحبيبة مُقيّدة، أسيرةٌ، تنطلق روحها وحروفها، تجوب سماء العشق؛ فتطوف بالحبيب، وتتَّحد به، ثم تلوذ بالصمت من جديد؛ فتتأرجح السطور بين ثُنائيات الصمت والصوت، السر والجهر، الجرأة وضدها، الوصال والبعد، ويتألم الشاعر لغياب الحبيبة؛ فيستعمل في قصيدته ضمير الخطاب (أنتِ)، ويوظف أسلوب النداء؛ ليستحضر مُنية روحه، ويردفه بالأسلوب الإنشائي من خلال أفعال الأمر: (فاكسري، واتبعي ، أعلني، تعالي، انطقيها...).
يمنحها خارطة للعشق حتى ترتاح هي ويستقر هو.
تُطالعنا القصيدة بحالة عشق غريبة، تبوح بمشاعر غير عادية، فيها تداخل كتداخل الفصول، وغموض كغموض الطلاسم؛ فمرّة تبدو الحبيبة مُتصلة، مُتواصلة، مُخاطِبة، ومرّة هي صامتة، ساكنة تضطرم في أحشائها نيران الوجد؛ فتكتوي بغيرتها، وتهتزّ الارض تحت قدميها، ويعبث بها جنون لا برء منه؛ فتتعذب ويتعذب حبيبها؛ فيستدعي خبرته وفراسته وما ألهمته تجاربه، ويسخّرها لحبيبته، مُدلّلته؛ حتى يُنقذها مما تُعانيه ويُعانيه.
يبدو الشاعر غارقا في هواه، فلا ندري أنفسه ينقذ من عذاب الشوق، أم حبيبته؛ إذ ينتهي به المطاف إلى قبول النزر القليل من وصالها: اعتراف في شكل وشوشة يُرضيه، همسة في الأذن كفيلة أن تداوي بعض الجنون؛ بعد أن طالبها باعتراف علني عالي الصوت؛ يعمد إلى أسلوب الشرط بالحرف الدال على الإمكان (إنْ)، وأسلوب النداء (يا مُدلّلتي)، يعرض عليها خيارا يعود به إلى نقطة البداية؛ لكنه يرضخ لسطان الحبّ، فلا يخاطبها إلا بالرفق واللين، ولا يُكرهها على ما لا تقدر؛ وهي خاتمة تنفتح على العنوان و تصبّ فيه.
القصيدة
اعتراف...
في وَحشةِ الليلِ
وهذا السكونُ حَولي
أنا، واليراعُ، وقلبيَ المكلومُ، ووحدتي
أُعاقرُ ما تبعثينَ من طلاسمَ
وتلكَ الأحاجي التي بِها
في خطابِكِ لوَّحتِ
وأنتِ في دارِكِ، في أقصى البقاعِ عنّي
لعلّي أفقهُ حرفاً ممّا عنَيتِ
أو أُدرِكُ ما خلفَ سطورِكِ أخفيتِ
أُترجمُ ما تعنيهِ (هل أنتَ بخيرٍ؟) التي كتبتِ
هلْ لي بقاموسٍ يُفسرُ لي صمتكِ؟
أو حينَ يلتقي خافقانا
تُغادرُ كلُّ اللغاتِ، ولا ينطقُ إلّا
صمتُكِ؛ إذ يُخاطبُ صمتِي
يا مُنيةَ الروحِ، ويا بلسمَ جُرحي
أعلمُ أنَّ ما تُخفينَ سِرّاً لم يعُدْ
يُفشيهِ كلُّ حرفٍ بهِ نطقتِ
قصائدُكِ التي بها سماءُ منفايَ
جادتْ، وأمطرتْ
وَجيفُ ما بينَ ضلعَيكِ ساعةَ
تسمعينَ صوتِي
والأرضُ في بلادِكِ، تحتَ أقدامِكِ
حينَ تهتزُّ
تدّاخلُ الفصولُ ببعضٍ
ويَصدِقُ ظنِّي
ساعةََ تنطقُ ابنةُ أُنثى غيرُكِ؛ باسمِي
تشبُّ حرائِقُ في جوفِكِ
لا تنفعُ أعذاري، ولا
ما بعلمِ النساءِ خبِرتُ، ولا فنِّي
أعلمُ علمَ اليقينِ أنَّكِ حَيرى
وبسحرِ ساحرٍ مسحورةٌ، مِثلي
جنونُكِ ذا صعبٌ شفاؤُهُ
والأصعبُ لو أنَّكِ اخترتِ
بعادَكِ عنِّي
فاكسري ما قيَّدَ كفَّيكِ قَسراً؛ واتبعي
دليلَ قلبِكِ، جَهراً أعلِنِي
بعالي الصوتِ قوليها:
(إنِّي أُحبُّكَ، يا هذا ال...)
وإنْ خانتكِ الشجاعةُ، يا مُدلَّلتيي
إليَّ تعالي، وهمْساً انطقِيها
قولي: (عشقتُكَ...)
في أُذنِي...
.............
مديح الصادق... كندا
الخميس 25 - 2 - 2021

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق