السبت، 11 نوفمبر 2017

الدركي ---- قصة للنقد ،،،، بقلم الشاعر/ رشاد عطيه الدهشوري

الدركى........قصة قصيرة للنقد
ألقى حمولته أسفل شجرة جميز عتيقة, تأمل ما تبقى من بضاعة, بعض أثواب من الدانتيل  وملابس للأطفال..
أخرج سيجارة محشوة بالحشيش أشعلها  وركن ظهره الموجوع إلى جذع الشجرة.
"ملعونة مهنة البيع والشراء, طول النهار فصال ومناهدة وقرف"
ينفث الدخان الأزرق إلى أعلى   فتغرد العصافير  وتترنح طيور الغر السوداء التى تأكل ثمار الجميز بنهم غير عادى .يضع فص أفيون تحت ضرسه , يستحلب الأفيون ويزوم كجمل هده السفر والترحال,أخرج رزمة من النقود يحصيها بصوت مسموع :
"واحد ...مالوش تانى ..تلاتة.."
أتم الألف قبلهم وضربهم فى جبهته,"الحمد لله
"جبرنا "
"ما أصعب البيع للرجال يقلبون البضاعة  بالساعتين ولا يشترون ,أما الحريم  نعمة واللى يكرهها يعمى , بكلمة واحدة تحط اطخن إمرأة فى جيبك"
إزداد تغريد الطيور  وثمة نسمات تبدر حبات المطر الخريفى على وجهه.
أمسك ربابة صغيرة تخرج لحنا حرينا  وراح يدندن :
"ياعين ياليل ياعين ياليل ..أبوزيد أبصر عمل كيف ,قاله خلاص يابن غانم ..يالرمح بالحربة بالسيف لازم نجيب الهوانم ..
كان لصوتة نشيجا كوقع المطر ...
تذكر حبيبته"زهرة"البنت الريفية والجسد البض الأبيض .
منذ سبعة شهور وفى اللقاء الأخيرجلسا تحت هذه الشجرة واسمعها قصائد من ديوانه الأخير "
فنفد كلامه إلى قلبها وسرى فى الشرايين ونفذت قبلتها إلى قلبه وعروقه واحتوتهماظلال أشجار البرتقال العتيقة ,سلمته برتقالتيها وسلمها قلبه ولم يرغبا فى الفراق لكن أخيها ذالك الدركى القميء القزم أشاح فى وجهه ببندقيته واستضافه ليلة فى غرفة الحبس بدوار القرية وسلب ما معه من نقود وبضاعة , حتى حشيش المزاج وحذره من مجرد التفكير فيها أو البيع فى تلك القرية , وأقسم أنه أبدا لن يزوجها لبائع قماش حتى لوكان أشهر من الأبنودي..
كانت الوان قوس قزح تترنح أمام عينيه وأطفال القرية قطار سريع,خلية نحل  حاوطته يحدثون ضجيجا  يتلقون المطربأيديهم وافواههم يتسلقون الأشجار كسناجيب صغيرة يأكلون ثمارا طازجة مغسولة بماء المطر ,راحوا يرجمونه بسيل من الثمار .
"غنى يا عم جابر والنبى تغنى أبوزيد الهلالى عمل إيه هو ودياب إبن غانم "
سالت الدموع بعينيه , حمل بضاعنه وخيالاته موليا ظهره للقرية
يدندن .
"أه أه أه ..هكتب على ورق اللبلاب الشوق يا حبيبى غلالالاب
وانا لى فى البلد دى أحباب ...قفلوا فى وشى الأبواب
أه أه أه
أه يا حمامه يتيمه ..ملعون أبوه الغراب ..قتلنى إبن اللئيمه
لولاش يقولوا قليل الأداب ..هكتب ديوان من" شتيمه"
أه آه....
الشمس تومئ لليل بالدخول وبعض الغيوم تحدث برقا خفيفا خاطفا..
تسمرت أقدامه  بالأرض وحيرة تراوده, هل يكمل السير إلى محطه القطار, أم يقضى الليلة معها حتى لو خسر حياته , أحس برغبه شديدة فى لقائها   وراح يزوم وكأنه يتألم .
"لن يهمنى ذالك الدركى القزم الغراب , الذى ينام بعد غروب الشمس فى آخر القرية..أعرف كيف أصل إليها ...
.البنت تعشقه تنتظر قدومه كل مطلع شهر متخمة بمشاعرالحب والهيام والخوف .
.فكر قليلا يتأمل بضاعته ..
.هذه الأثواب  الباقية هى نصيبها ,سوف أذهب اليها ولن اكون جباناولن يهمنى ذالك الدركى  .
تمنى لو يراها وأن يلقى برأسه فى صدرها .
هدأمن مشيته  وكانت الأمطار تضرب الأرض بوهن تغسل الأشجار والشوارع والبيوت .
.لن تكون خائفة كالمرات السابقة  ولن يطاردنى ذالك الدركى الذى لايستطيع أن يحرس مؤخرته, لابد أن تكون وحدها وسوف تفرش لى جسدهالاتمددعليه وأغرق فى العرق"
.بينما كان يحلم بلقائها إزداد البرق والرعد والمطر , راح يعدو
."لابد أنها سترتدى ثوبها الذى أهديته لها منذ سبعه شهور..كانت سعيدة وكان ثوبا جميلا وكأنه حديقة من الأشجار والطيور والورود..هذه المرة لن أتركها وحدها ,سوف أخطبها من ذالك الجلف الذى يحتمى فى بندقيةأطول منه..نعم سأتزوجها وسوف تكون زوجة رائعة.
يحدث نفسه..يهزى وليل الشتاء يداهم الريف فجأة ويدفن القرى فى الظلام..
.إبتلعته العتمة وقذفت به إلى حقول البرتقال خلف بيتها
أشعل سيجارة دخنها  ثم دفنها فى الأرض ومن بعيد لمح ذالك الدركى خارجا من الدار فى إتجاه القرية
.أحس بالبرد والخوف وأنه يحتاج قدرا من الشجاعة.
وضع فص أفيون تحت لسانه واتبعه بسيجاره محشوة ,والحشيش يلعب بالرؤوس
ويضفى على شاربيه بهجه مزيفة.
.إنتابه شعور بالفرح والنشوى , أحس قلبه يرفرف فى صدره وراح يضحك فى هستيريا  يمشى متعثرا بين الأشجار.
أرعبه صوت ثعلبه تصرخ تبحث عن وليف.
فى الضوء الواهن  الخارج من دارها وكأن أشباح تتحرك .
إندفع كاعمى بكومه من الزجاج الخرده ,نصف زجاجة ضخم شج  حذاءه ونفذ الى القدم,كتم صرخته,إبتلعها.تألم بشدة حتى إنتزعها والدماء تنزف من قدمبه سيلا,أحس بالدوار وأن الدنيا تزداد عتامه
ولم يعد يرى كف يده.
أحس وكأن الحديقه تشغى بالأشباح وعيون كثيره تلمع فى العتمه وصوت كلاب تزوم ثم تزمجر فى تحفز , تقترب وكأن رائحة دمائه تجتذبهم , وصراخ رضيع فى آخر شهقة للحياة وقطط تتعارك ,خبط رأسه بيده بقوة:
"ملعون أبو الحشيش"
أحس بالوهن والخوف ,تكوم على الأرض والماء الدافىء ينساب فى سرواله.
ترنح محاولا الوقوف وكأن سكين إنغرس فى قلبه يخبط رأسه فى جزع شجرة يوهم نفسه أن ما يحدث مجرد خطرفات الحشيش المضروب .
الليل الشتوى فى الريف وبين الحدائق مرعب .
خيل إليه أن  ذلك الدركى أمامه يجعرفى وجهه.
ظل يجرى ورأسه تصدم بفروع الأشجار  حتى وصل إلى دارها والدم ينزف منه غزيرا.
فى اللقاء الأخير منذ سبعه شهور  قبلته وهى تودعه:
"خذنى معك لو اكلها بملح"
ثم بكت بحرقة ,وأقسم لها أنه سيعود وكانت دائما تنتظر عودته.
وقف يرقب فناء دارها والهواء يعبث بشعلة "اللمبة الجاز" فتحدث أشكالا من الظلال والأخيلة ..
جلس القرفصاء مقلدا صوت ذئب, لم يجد ثمه إجابة وتعجب كيف تفتح الأبواب والنوافذ فى هذا الليل, عاودته الهستيريا :
"لأبد أنها تنتظرنى "
جرجر قدميه الملطختين بدمائه والتى كانت تتسيل بغزارة وإقترب من باب غرفتها الموارب , كانت تبدونائمة فى فراشهاوقد إنسدل شعرها الفاحم ليغطى صدرها  وكتفيها وبدى صدرها ككتلتين من الضوء,زلزله الرعب وثقب أسود فى جبينها العريض اللأبيض.
لم تعد عيناهاالخضراوين تفتحان وبقعة دم كبيرة أسفل رأسها, يبكى ثم يضحك ثم يبكى ويخيل إليه أنهما فى ملابس الزفاف وأنه يداعبها فتتصنع النوم يمرغ وجهه فى وجهها ,يدندن.
"أه أ ياحبيب القلب يا غالى
أفديك بعمرى ومالى
وغيرك فى الدنيا مالى "
وثمه كلاب تزمجر تتشمم الدم الذى لطخ أرض الغرفة, تلعقه وتقترب فى تحفز, تكاد تفتك به وثلاث خفراء يشهرون بنادقهم فى وجهه , يحملونه من زراعيه بينما أخوها ذلك الدركى القزم أصبح ضخما جدا كشجرة ..
رشاد عطيه الدهشورى

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق