الخميس، 4 سبتمبر 2025

** (باب أنطاكية).. قصة: مصطفى الحاج حسين.

 ** (باب أنطاكية)..

قصة: مصطفى الحاج حسين.
لم أستطع النّوم، كنت مقهوراً وقلقاً، نامت زوجتي باكيةً، ولم أقدر أن أجد عملاً. في كلّ صباح أذهب إلى (باب أنطاكية)، حيث معرض عمال البناء والأعمال الشّاقة من عتالة وحفر، أحمل كيساً فيه عدّة البناء، لكنّ مواصفاتي لا تشجّع الذين يأتون ليأخذوا العمال للعمل عندهم. فأنا قصير القامة، وجسدي هزيل، ضعيف البنية، وخجول لا أزاحم مثل بقيّة العمال، الذين يهجمون ويتزاحمون ويتدافعون نحو أرباب العمل، وهم يعرضون أنفسهم، ويتساهلون في قلة أجورهم بسبب منافسة الآخرين.. كنت أعجز عن المزاحمة وعرض نفسي، فصوتي ضعيف لا يُسمع في هذه الفوضى العارمة، وكرامتي تمنعني من التوسّل والتّرجي، وعرض مهارتي في القدرة على العمل.
فأنا معمارٌ ممتازٌ بشهادة أبي الذي علّمني هذه الصنعة، وكنت أؤمن بأنّ القضية ليست بضخامة الجسد، بل برشاقته، وتمكّن العامل من صنعته، وخبرته، ومهارته. وأنا كسبت كلّ هذا عن أبي المشهود له ببراعته في مهنة البناء.. ومع هذا كنت أعجز عن الوصول إلى من يأتي ليطلب من العمال ما يحتاج، بسبب الازدحام والمدافعة، والأصوات الهائلة الهادرة والشديدة الصياح.. وكان العمال في كثير من الأحيان يتشاجرون، ويتضاربون، وتتعالى بينهم الشتائم، إلى أن يغادرهم من كانوا يتنافسون عليه للذهاب معه للشغل بأقل الأجور والأسعار. كان المهم أن يؤمّنوا قوتَ أطفالهم لهذا اليوم.
وحين لا يكون هناك من هو بحاجة للعمال، ويكون الجميع بحالة انتظار وترقب، ونحن نقف على الرصيف العريض، معظمنا يدخن وهو مستند على سور الحديقة، بمفرده، أو ضمن جماعات تتحدث بأصوات عصبيّة مرتفعة.. حينها ألمح بعض الأشخاص ينظرون إليّ ويتشاورون في أمري.. فأنا أحمل شكل أستاذ، لا أدري هل حبّي للقراءة ولكتابة الشّعر، حوّل وجهي إلى وجه أستاذ؟! في هذا المكان بالذات، كنت لا أحبّ أن أبدو أستاذاً أو مثقّفاً أو شخصاً له علاقة بالفكر والمعرفة، حتى لا أتحوّل بينهم إلى سخرية، فهم غلاظ أجلاف لا يحبّون أو يحترمون مَن هم أكملوا تعليمَهم في المدارس والجامعات، وأنا مثلهم تقريباً، لم أكملْ تعليميَ المدرسيَّ، لكنّي ربما من سوء طالعي كنت مغرماً بالمطالعة والقراءة، وبمحاولة كتابة الشّعر، في أوقات فراغي، ولهذا سرعان ما ألفت انتباههم، فيتهامسون عليّ ويتشاورون، ثمّ يتشجّع أحدُهم، أو اثنان منهم، فيتقدّمان مني، ويسألني واحدٌ منهما:
- مرحبًا أستاذ.
أردّ وأنا أعرف ماذا يريد منّي هذا الشّخص:
- أهلاً وسهلاً.. ولكنّي لستُ أستاذًا، أنا معلم بناء.
وأشير له بيدي إلى الكيس الأسود الذي أحمله.
- وهذه عدّة عملي.. (المالة، والزيبق، والخيط، والشاكوش).
ومع هذا لا يقتنع بكلامي، فيتابع:
- أستاذ هل تنتظر أحدًا؟.. أنا أذهب معك، ماذا عندك؟.. أنا أشتغل.. وبأجرة أقل مما ستدفع له.
أقول موضحًا:
- أنا والله مثلك.. أبحث عن شغل.
ويقترب زميله الآخر ليقول:
- أستاذ.. لن يأتي مَن تنتظره، خذنا بدلًا عنه ولن تندم، نحن نعمل كما يرضي الله.. ودَعْ أجرتَنا على كيفك.. حسب ما يمليه عليك ضميرُك.
هكذا هم، لا (يصدقونني).. في كل يوم، ولا أعرف كيف أتعامل معهم!!!.
يظنونني صاحبَ عمل، معلّمًا أو تاجرَ بناء، أو مهندسًا معماريًّا.. وأنا لكي أبدوَ عاملَ بناءٍ، أتعمّد حين أجيء إلى هذا المكان، أن أرتدي أقدمَ الثياب عندي، وأنا في الأصل لا أملك ثيابًا جيدة، ولا حذاءً ملمّعًا ونظيفًا.. وكنت لا أحلق ذقني، واللهِ، أتعمّد أن أشوِّهَ شكلي.. ومع هذا لا أبدو مثلهم، عاملَ بناء..
هل عملي في مخبز (الحمْدانية) كأمين مستودع لمدة أربع سنوات، حوّل شكلي إلى شكل أستاذ؟!.. مصيبة، والله! هذه الحالة.. لا أحد منهم يصدق، مهما أقسمت لهم، وشرحت لهم ظرفي.
بل على العكس، كان رفاقهم الذين كانوا يتابعوننا عن بُعد، يتقدّمون نحوَنا ويشاركون زملاءهم بطلب أن يذهبوا معي، ويعملون عندي.
وفي معظم الأحيان، كنت أعود إلى البيت مقطوعًا من الدخان، وباكي العينين، أحمل غصّةً في روحي، ووجعًا في قلبي.
وتسألني زوجتي الشاحبة الوجه:
- عدتَ كالعادة، لم تتوفّق في إيجاد شغل.
كنت أقيم في غرفة صغيرة عند أهلي، أنا وزوجتي الحامل بولدِنا الأول، أدفع لأبي أجارَ الغرفة، وثمن فاتورة الماء والكهرباء.. وكان والدي، وبتشجيع من أمي، قد عزلني وزوجتي عن أن نشاركهم الطّعام، وإن كنّا نقيم معهم في ذات المنزل، فصار لزامًا عليّ أن أجلبَ لزوجتي ما تطبخه، لنأكله في غرفتنا اليتيمة.
وكان إخوتي وأخواتي الكثيرون، ولا سيّما الصغار منهم، يشكّلون شبهَ عصابة على زوجتي، يتسببون بإزعاجها ومضايقتها وتحديها في غيابي، وهي ابنةُ عمّتهم.
ليست بالغريبة، فقد كانوا يحبّونها كثيرًا قبل أن أتزوّجها، وبعد الزواج انقلب الحال، بدايةً من أمّي، وتبعها أبي، ثمّ أخواتي، وأخيرًا إخوتي. وكان أخي الأكبر، وحده القادر على التأثير في عائلتنا، ومساعدتي ومساندتي بالوقوف إلى جانبي، ومنعِ أبي من الضغط عليّ، والتخفيفِ من غلواء أمّي، وأخذها دورَ "الحماة"، لكنّه، ولسوء حظّي، كان وقت ذاك يؤدي خدمة العلم في الجيش الإلزامي، فهو بعيد عني، وأنا أعيش أفظعَ أيّام حياتي.
شكلي كان العائق الأكبر في طريق إيجاد العمل. وكم تمنّيت أن تتغيّر ملامح وجهي وصفات جسدي. صرت أفكّر أن أطيل شنبي، وألا أحلقه أبدًا، فأنا الوحيد بين عمال (باب أنطاكية) أبدو حليق الشّوارب.
هل أقول إنني كرهت نفسي؟!.. وكرهت صلعتي؟!.. وقامتي؟!.. وجسدي الضّعيف؟!.. وحبّي للقراءة وكتابة الشّعر؟!..
كان عليَّ أن أبدوَ خشنًا، ذا عضلاتٍ بارزة، وصوتٍ غليظٍ جهوريّ، يليقُ بعاملِ بناءٍ في ساحةٍ تشبه ساحةَ الصّراع.
ومن محاسن الأقدار، لمحتُ (أبو محمود شكشك)، المعمار، رفيقَ والدي، فقد اشتغلنا معًا ذات يومٍ في بناءِ عمارةٍ في منطقة (الجابرية).
اندفعتُ نحوه، وأنا أنادي بصوتٍ ملؤه الرجاء والفرح:
-- أبو محمود!.. أبو محمود.
توقّف، التفت إليّ، فتقدّمت نحوه متلهّفًا. كان قد مرّت سنواتٌ طويلةٌ منذ رآني آخر مرة، قبل أن أذهبَ إلى الخدمة العسكرية، وأنا بالتأكيد تغيّرتُ، وكبُرت، وربّما تبدّلت ملامحي عليه.
لكنّه، بلا أيّ تردّد، عرفني فورًا، ومن غير أن أُذكّره باسمي، هتف بدهشةٍ مفعمةٍ بالحنين:
- مصطفى؟!.. ماذا تفعل هنا، في باب أنطاكية؟!
سلّمتُ عليه بحرارة، اقتربت منه أكثر، صافحتُه بشوق، وكدتُ أقبّلُ يده من شدّة امتناني وفرحي، لكنّه عاد ليسألني، والدهشةُ لا تزالُ تملأ قسماتِ وجهه:
- معقول؟!.. أنت هنا تدوّر على شغل؟!.. لماذا صار بك هذا؟! أنت والدُك يشغّل الناسَ عنده، تأتي إلى هنا لتبحث عن عمل؟!
منعتُ دموعي من التّدفق، وقلتُ:
- عند أبي لا عمل لي، فهو غيرُ راضٍ عنّي.
قال:
- لا حول ولا قوّة إلّا بالله العليِّ العظيم.
قلت:
- أنا منذ زمن لم أعمل في البناء، ولا معارف عندي، هنا يبحثون عن الأجسام الضخمة.
قاطعني وهو يضحك، وقال:
- تعال.. هيا معي.. اذهب واصعد في سيارتي.. وأشار لي بيده إلى سيارته (البيك آب) الأسود.
ذهبتُ إلى سيارته، وأنا فرِحٌ، فقد فُرجتْ عليّ، والحمد لله، ولكن عندي مشكلة.. أنا مقطوع من الدّخان، عندي (سيجارتين) فقط، فكيف سأقدر أن أعمل طوال النّهار، بلا دخان؟!.. هذا صعب، وصعب جداً.. أنا مدمن شرس على التّدخين، كما وصفني ذاتَ يوم، في رسالةٍ صديقي (عاطف)، عندما كنتُ عسكريّاً.. هل أطلب من (أبو محمود) سُلفة، لأشتريَ علبةَ سجائر؟!.. ولكنِّي أخجل أن أطلبَ منه بهذه السّرعة، صحيحٌ هو صديقٌ لأبي، وأنا عملتُ معه سابقاً، ولكن من الصّعب عليَّ أن أطلبَ سُلفةً قبل أن أبدأَ العمل.
جاء، وصعد سيارته، مبتسماً لي، وهو يقول:
- والله زمان يا (مصطفى)، ما شاء الله صرتَ رجلاً.. كم لي من السّنوات لم أرَكَ؟!.. هل ما زلتَ تُحبّ الشعرَ؟!.. وهل ما زال والدُكَ يخشى عليكَ من الجنون، من فَرطِ ما تقرأ من كتب؟! طوال الليل؟.. أم أنّكَ أقلعتَ عن هذه العادة، التي لا تُطعِم خبزاً؟!.
كنتُ أريد أن أطلبَ منه سُلفةً لأشتريَ علبةَ سجائر، ولكنَّني خجلتُ، وقلتُ في نفسي: سأطلبُ منه ونحن في العمل،وهذا منطقيٌّ أكثر، وأنسبُ بالنسبة لي. سألني:
- ما أخبارُ أبيك (أبو سامي)، العصبيِّ المرح؟.. هل ما زلتَ تُتعبه وتُغضبه
؟.. أم أنكَ عقلتَ وصرتَ تسمعُ كلامه؟
قلتُ وأنا حزين:
- أبي تغيّرت معاملتُه معي، من يوم أن زوّجني، صرتُ بالنسبة له ولأمّي، كأنّي شخصٌ غريبٌ يعيشُ معهم في منزلهم.. عزلني عن مشاركتهم المعيشةَ، أنا وزوجتي، التي ستلد عمّا قريب، وفرضَ عليَّ أن أدفعَ له أُجرةَ الغرفة التي نقيمُ فيها، إضافةً إلى تسديد فواتير الماء والكهرباء، ثم يتوجّبُ عليّ مساعدتُه لينفقَ على عائلتِنا الكبيرة
.. ولكنه ليس محتاجاً إلى هذه الدرجة، فهو في وضعٍ أفضل من وضعي، بعد أن تركتُ وظيفتي، كأمين مستودع، في (مخبز الحمدانية) وصرتُ بلا راتب.. وهذا ما أجبرني على العودة إلى صَنعة العمارة، التي لا أُطيقها منذ صغري.
وصلنا إلى منطقة (حلب الجديدة)، التي بدأ العمرانُ الفاخرُ ينتشر فيها، وكان مكان عملنا (فيلّا) عظيمةَ العمران، والجمال، والزخرفة، والمساحة الكبيرة.
بدأنا العمل، وأنا مقطوعٌ من السّجائر، و(أبو محمود) لا يدخّن، ونحن في منطقةٍ مقطوعة، لا محلات فيها بعد، لبيع السّجائر أو المواد الغذائيّة.. صعد (أبو محمود) على سقالته، وكان عليَّ أن أهبطَ وأصعدَ الدَّرج، وأسيرَ مسافةً طويلة، لأذهبَ إلى الحجار، وأحملَ على كتفي حجرًا من عنده، غايةً في الثقل، أبيضَ وأملس، محفورًا، بل مزركشًا بأجمل وأعظم أشكال النّحت.
الحجر يبدو كأنَّه لوحةٌ رسمها فنانٌ عظيم، ولهذا كان ممنوعًا أن نحملَ الحجارة عن طريق الرّافعة الكهربائيّة، التي خفّفت عن عمّال البناء الجهدَ والتّعبَ، حين كانوا يصعدون الدَّرج وهي محمولةٌ على أكتافهم أو ظهورهم.
كانت الرّافعةُ ثورةً عظيمةً في عالم البناء.
وقد خفّفت عنهم الجهدَ والتّعبَ، لكنّها في ذات الوقت، قلّلت من فرصِ العمل، فعَملُ الرّافعة لساعةٍ واحدة، أعظم بعشرِ مرّات من عمل عمّالٍ كُثُر؛ ثورةٌ علميّةٌ تسبّبت في قطعِ رزقِ طبقةٍ كاملة من العمّال، في البناء وغير البناء!
كان عليَّ أن أحملَ الحجرَ المزخرفَ بكثيرٍ من الحيطة، والحنان، والاهتمام، كأنّه طفلٌ عزيزٌ ومدلَّل، وغالٍ على القلب؛ فالحجرُ الواحدُ من هذه (الفيلّا)، قد يساوي ثمنُه الكثير.
الحجرُ ثقيل، والطّريقُ إلى إيصاله طويل، وعليَّ أن أمشيَ في الممرِّ الضيّقِ والرّطب، حيثُ تتناثرُ فيه الحجارةُ، وأسياخُ الحديد، وقطعُ الأخشاب، والأوراقُ، والغبارُ، وغيرُها.
ثمّ أصلُ إلى درجٍ متّسخٍ ومخيف، فأصعدُه، وبعدها أمشي بضعَ خطواتٍ لأتسلّقَ السلّمَ الخشبي، وحين أصلُ إلى السّقالة، كان على (أبو محمود) أن ينحنيَ ويلتقطَ الحجرةَ من على كتفي، فأتنفّس بعمق، وأشعر بالرّاحة، وعودةِ الرّوح.
انتصف النهار، أذّن الظّهر، وأنا أحتاجُ إلى سيجارةٍ واحدةٍ على الأقل، أعصابي بدأت تصرخ، ودمي أخذ يشتعل، رأسي صار يتفجّر، من المستحيل أن أستطيعَ أن أُكملَ عملَ هذا النّهار، من دون سجائر!.. السّيجارة عندي تساوي الشّيءَ العظيمَ.
زاغ بصري، ضاقت أنفاسي، اضطربت خطايَ.. صرتُ لا أقوى على حمل الحجارة، انتبه (أبو محمود) إلى وضعي، سألني:
- ما بك؟!.. لماذا وجهُك أصفر؟!
كدتُ أُصارحُه، أن أقول له:
- أريد سيجارة، يا معلّمي.
لكني صمتُّ، فالمكانُ مقطوع، حتّى لو أعطاني (أبو محمود) نقوداً، لأشتريَ الدّخان.
جاء إلينا شابٌّ جميلٌ وأنيق، يلبس أجملَ الثّياب، وحذاؤه يلمع كخدّ القمر، يشعّ منه عطرٌ أثير، مُصفَّفُ الشَّعر بعناية.. سلَّم علينا، وردَّ (أبو محمود). عرفتُ أنَّه ابنُ صاحبِ العمارةِ الباذخة، وأنَّه ينتظرُ اكتمالَ بنائِها ليتزوّجَ بها. شعرتُ نحوه بالحسد الشّديد، وقلتُ في نفسي:
- هذا هو البرجوازيُّ الذي حدّثني عنه (عاطف، ومصباح).
كان يُدخّنُ سيجارةً بيضاء، ذاتَ فلترٍ طويل، أعرفُ نوعَها، هي من أغلى أنواعِ التّبوغ في العالم، إنَّها سيجارة ماركة (كنت).
فكَّرتُ أن أقتربَ منه، وأن أتشجّعَ وأطلبَ منه
سيجارة... كان الأمرُ صعباً عليّ، فلو كان عاملاً مثلي، لكان أهونَ عليّ، إنّه من غيرِ طبقتي... بيني وبينه فراسخُ ومسافات.
لذلك مررتُ من جانبه، دون أن أطلبَ منه سيجارة، فكَّرتُ أن أؤجّلَ طلبي، إلى أن أنزلَ وأُحضِرَ حجراً لـ(أبو محمود)، ريثما أستطيعُ أن أستكملَ وأستجمعَ قوايَ الخجولةَ والمضطربة.
نزلتُ مسرعاً، وعدتُ ألهثُ على عجلة، وكانت الخيبةُ بانتظاري.. لقد ذهب، توجّه إلى سيّارته الفارهة
.. فتضايقتُ، وانزعجتُ، ولعنتُ حظي.
أريدُ سيجارة يا الله... لو تدري يا أبي ما أنا فيه، لما تركتني هكذا... العملُ معك كان أسهلَ وأجمل... لم أنقطعْ يوماً عن التّدخين، وأنا أعمل معك.
وحدثَ ما لم أكن أتوقّعه، أو يخطرَ ببالي، لقد اختلّ توازني وأنا أصعدُ الدّرج، ووقعتُ، وسقطتِ الحجرةُ المزخرفة عن كتفي، وانكسر بعضُ أطرافها، وتشوّهت، وما عادت تصلحُ للعِمران، في هذا البناء العظيم... تُرى، كم كانت تساوي من ثمن؟!..
هكذا كنتُ أتساءل، قبل أن يصلَ إليّ (أبو محمود)، وهو يصرخ بأعلى صوته:
- يا لطيف... يا لطيف!
انحنى فوقي (أبو محمود)، دفع من قربي الحجرَ التّحفة المهشّمة، أنهضني من وقعتي، أسندني، وهبطنا الدّرج نحو الأرض.
كنتُ أتألّم، وأصابعي تقطر دماً، وكان (أبو محمود) يدمدم بصوتٍ كلّه أسى وحزن:
- لا عليك... سلامتك... الحجر ممكن للحجّار أن يصنع بدلاً منه... المهمّ أنت... إن شاء الله تكون أصابعُك سليمةً.
وحين هبطنا الأرض، طلب منّي أن أحرّك أصابعي، فحرّكتُها، فهتف:
- الحمد لله... أصابعك سليمة... لا يوجد كسر، أيّام وتتعافى... اذهب من فورك إلى بيتك، وحين تشفى، تجدني هنا بانتظارك.
ثم مدّ يدَه إلى جيبه، وأعطاني مئة ليرة، وهو يقول:
- عليك العافية... سلِّم لي على (أبو سامي).
كان موقف (الباص) بعيدًا بعض الشيء، كنتُ أمشي وأنا في غاية الألم، جسدي منهك، ويدي توجعني، والدنيا مسوّدة في وجهي. أتساءل بحرقة:
- الآن... ماذا سأفعل؟! حين وجدتُ شغلاً، لم أعُد أستطيع أن أشتغل... فكيف سأدبّر أمري؟! وأستطيع أن أعيش أنا وزوجتي؟!.
من الجيّد أنه أعطاني مبلغ المئة ليرة، ولكنها... كم تكفيني؟! يوم؟ يومان؟!
وقفتُ عند الموقف، كان هناك (كشك) لبيع السجائر، اشتريتُ علبة تبغ، وبلهفة أشعلتُ سيجارة.
وحين وصل (الباص)، كنتُ قد أحرقتُ سيجارتين.
صعدتُ مع الآخرين من الرّكاب، اخترتُ كرسيًّا منفردًا وجلستُ، أرقب الطريق من خلف الزجاج.
منذ كنتُ في الصف الثاني الابتدائي، تحوّلتُ إلى عبدٍ للسيجارة.
تعلّمتُ عليها، من خلال أخي (سامي)، وابن عمي (غزال)، وكانا يكبراني، كلٌّ منهما بسنتين.
تعلّمتُ منهما، ثمّ هما تركاها، وبقيتُ أنا أسيرًا لها. وصار أخي (سامي) يشكوني لأبي الشّديد القسوة، وإلى عمّي (عمر)، الذي يُقيم معنا في دارنا.
وكان عمّي العازب، قد ولّاه أبي تربيتي ورعايتي
؛ فهو مَن يُشرف على سلوكي، ويعمل على ضبطي، ومراقبتي، ومعاقبتي، في حالِ سلكتُ سلوكًا غيرَ مناسب، أو غيرَ عادي، لا ينسجم مع عادات وتقاليد أهل البلدة، المتزمّتة، والمتخلّفة، والصّارمة في عاداتها وتقاليدها.
عمّي (عمر)، أشدُّ قسوةً من أبي، فكم ضربني، وجلدني، ورفع لي قدميّ، وصفعني، وصادر لي السّجائر، وكسّرها، ورماها
؟! وكنتُ أبكي بشدّةٍ وضراوة، وأقسم له بأنني لن أعودَ وأدخّن طوال حياتي.
لكنني كنتُ أكذب عليه، وأعاهد نفسي أن أتحدّاه، وأتابع التدخين.
ليتَ الأمرَ اقتصرَ على تدخينِ السّجائرِ وقتها، بل تعدّى الأمرُ، إلى أن وصلتُ حينها إلى تعاطي الحشيش.
فقد سكن في حارتِنا شخصٌ يبيعُ الحشيش، وكان عنده ولدٌ أصغرُ منّا، أنا ورفيقي في الشّقاوة (حسن)، وابنُ عمّتي (وليد). وصار (خليل) ابنُ مُهرِّبِ الحشيشِ الذي صادقناه، يسرق لنا أكياسَ الحشيشِ من دارهم، ويُعطينا، دونَ مقابلٍ من المال.
ومضى علينا أكثرُ من شهرين، ونحن نتعاطى الحشيشَ، في السرّ طبعًا، إلى أن اكتشف أخي (سامي) الأمر، فقام بتهديدي بأنّه سيشكوني إلى عمّي (عمر).. فارتعبتُ، وأخذتُ أرجوه أن لا يفعل، لأنّ عمّي لحظتها سينفّذ، بحقي، حكمَ الإعدام!
واضطرّ أبي أن يغضّ البصر عنّي وأنا أدخّن، حين كنت أعمل معه،
وصار يشتري لي عُلبَ الدّخان، ويعطيها لأمّي، وهي بدورها، تعطيها لي، حين أذهب معه إلى الشغل في العمارة، بالرّيف والقرى، القريبة من بلدتِنا، والبعيدة منها، مثل محافظة (الرّقّة)، في منطقة (سدّ الفرات) العظيم.
وكنت أختفي، وأتوارى عنه، وأغيب، وأتهرّب، إلى أن أنتهي من سيجارتي، حتى أجبرته ذات يوم، وكنتُ قد بلغتُ من العمر (السّادسة عشرة) سنة.
كنّا وقتها نعمّر معملَ الزّجاج في منطقة (المسلميّة)، حدث أن ناداني وهو يقف على سقالته، بعد أن انتظرني، وصاح عليّ كثيرًا، وكنتُ مختفيًا، أدخن، وأنا أتجاهل نداءاتِه.
ووقتَ صعودي إليه على السّقالة، وعلى كتفي أحمل له الحجر، استوقفني وقال عابسًا:
- أخرِج من جيبك علبةَ دخانك.
انصعقتُ، وصُدمتُ، وتفاجأتُ، وتساءلتُ:
- ما به؟!.. ماذا يقصد ويريد؟!.. هل خطر له أن يُحاسبني على التّدخين؟!
بعد كلِّ هذه السّنوات
؟!.. وأقسمتُ بداخلي، إن أراد معاقبتي، كما في السابق، من أجل التّدخين، سوف أدفعه وأرميه من على ظهر سقالته، إلى الأرض، سأرتكب به جريمة، وأتخلّص منه.
قلتُ مضطربًا:
- ليس عندي علبةُ تبغ.. أنا لا أدخّن.
قال:
- خلّصني من قصّة تدخينك..أشعل سيجارتك
، ودخّن أمامي.. لقد سمحتُ لك.. فأنت صِرتَ شابًّا.
أشعلتُ سيجارتي على استحياء، ولكنَّني منذ ذاك اليوم، بدأتُ أدخّن أمام أبي، دون خوفٍ أو عقوبةٍ فظيعة.
نزلتُ من الحافلة، أشعلتُ سيجارة، ووقفتُ على موقف (سيف الدّولة)، لأُكمل طريقي إلى البيت.. دقائق، ووصل (الباص)، أخذتُ مكاني، وعدتُ إلى ذكريات سيجارتي اللّعينة، التي اشتريتُ السّيجارة الواحدة منها بخمسِ ليرات، يومَ كان سعرُ العلبة الكاملةِ منها.. بليرةٍ ونصف، وذلك يوم تمّ القبضُ عليَّ من قِبل دوريّة الشّرطة العسكريّة، في كراج (الهوب هوب)، بعد أن مُنحتُ إجازةَ دورةِ الأغرار.. وتأخّرتُ يومين عن موعد التحاقي بقطعتي العسكريّة..
ونقلوني مقيَّدًا من سجنِ الشّرطة العسكريّة (بحلب)، إلى (دمشق)، سجن (القابون)، وهناك أخذ منّي الرّقيبُ أوّل، الذي يُفتّش كلَّ وافدٍ إلى السّجن، حيث يُجبَر الجميع على التّعريةِ الكاملة، والتّفتيش حتى في ثُقبِ مؤخّرتِه، التي ربما يتمّ عن طريقها تهريبُ الحشيش!
ولأني كرهتُ أن أُهان إلى هذه الدّرجة، فقد دفعتُ له، ديوانَ الشّاعر الذي أعشقُه (نزار قبّاني)، الذي اشتريتُه من مصروفي، الذي أخذتُه من أبي، ليكفيني طولَ فترةِ غيابي، إلى أن أحصلَ على إجازةٍ أخرى..
وهناك، في سجنِ القابون المريع، والمكتظِّ بالموقوفين.
اشتريتُ ثلاثَ سجائرَ من نوع(الحمراء الطّويل)
، بمبلغ خمس عشرة ليرة.. وقمتُ بتدخين السّجائر، في (المِرحاض)، الشّديدِ القذارة، والذي هو بلا باب، بل كان مفتوحًا على الجميع، حيث يتمّ من خلال حنفيّته الصّفراء البشعة والمقرفة، شربُ الماءِ الكريهِ، من قبل جميع من سقطوا من العساكر، في فخّ الشّرطة العسكريّة.
رغم ألمي ووجعِ يدي وأصابعي، وأنا في (باص) سيف الدّولة، ارتسمت على شفتيّ ابتسامة، وأنا أتذكّر يوم كنتُ في درسٍ تدريبيّ، في معسكر دورة الأغرار، حيث كان الملازم أوّل (حسن عوض)، يُعطينا ويشرحُ لنا، فطلب منّي أن أحضر له قلمًا، من خيمتي، التي نقف على شكل صندوق مفتوح، أنا ورفاقي العساكر، بالقربِ منها.
غادرتُ الجمع، وبسرعة دلفتُ إلى خيمتي، وعلى الفور، هرعتُ وأشعلتُ سيجارة، والوقتُ ضيّقٌ وعصيب، سحبتُ نَفَثا عنيفًا. وأتبعته بأنفاسٍ متقطّعة، بشغفٍ وبلهفة، ثمّ خرجتُ من خيمتي، والسيجارة ما زالت بين أصابعي، ينبعثُ منها الدّخان.. ولمّا فطنتُ لها، سرعان ما قذفتُ بها بعيدًا عنّي، واقتربتُ من الضّابط، لأُعطيه القلم، الذي أرسلني لإحضاره.
حينها.. استوقفني الضّابط، وقال لي:
- تعال.. وقل لي، ماذا فعلتَ في هذه الدّقيقة؟!
قلتُ بخوفٍ شديد:
- سيدي.. لم أفعل شيئًا.. أحضرتُ لك القلم، وأتيتُ.
قال:
- وماذا كنتَ تحمل بين أصابعك، قبل أن ترميه؟!
صمتُّ.. لم أستطع الكلام.. كان قد كشفني، ولمح السيجارة بيدي. سألني:
- ألم تُشعل سيجارة؟!.. أرسلتُك لتحضر لي قلمًا، فتُشعل سيجارة؟!.. وبهذا الوقت السريع؟!.. هل أنت "خرم" إلى هذا الحدّ؟!.. كم لك لم تُدخّن؟ وكم مضى لنا من الوقت، ونحن مجتمعون لأخذ الدّرس؟!.. لنا بضع دقائق لا أكثر.
همستُ وأنا في غاية التأسف والخجل:
- أنا آسف سيدي.. لن أكرر هذا الخطأ.
وما كان من الملازم الأوّل، إلا أن ابتسم بوجهي، الممتقع خوفًا وخجلاً، وقال:
- هل تعلم، لو أن واحدًا غيرك أقدم على هذا الفعل، لكنتُ عاقبته.. لكنك مدلّلٌ لدينا، فأنت شاعرنا المدلل.
وأشار لي بيده نحو السيجارة، التي قذفتُ بها.. وطلب مني أن أذهب وألتقطها، وأكمل تدخينها، ثم عليّ معاودة الالتحاق بالدّرس.
نزلتُ من (الباص)، وتوجّهت لأكمل مشيًا إلى منطقتي (صلاح الدّين)، دخلتُ حارتي.. وتوقّفتُ عند السمّان (أبو علي)، اشتريتُ من محلّه:
(أوقية سمنة، ومثلها شاي، ونصف كيلو من السّكر، وربطة خبز، وخمس بيضات).
(أصبعان) من أصابع يدي المصابة، كانتا زرقاوين الأظافر، بل كانت الأظافر مسوّدّة اللون، ضمّدت زوجتي لي يدي، وربطتها بشاشٍ أبيض، وسألتني:
- لماذا لم تنتبه إلى نفسك؟.. كيف حدث معك هذا؟!
قلتُ لها، وأنا أتأوّه من شدّة الألم:
- إنها السّيجارة.
وكم كانت زوجتي تكره السّيجارة، والتّدخين.. فتركتني وذهبت إلى المطبخ، لتحضر لي الشاي ولقمة آكلها، وكانت أمي وشقيقاتي في المطبخ، ولم يسألنها عن يدي، مع أن إخوتي شاهدوني حين فتحوا لي باب الدار.
أرادت زوجتي أن تقليَ لي البيض، فوجدت غازنا السّفريّ فارغًا من الغاز، ويومها كنّا نعاني من أزمة فظيعة في توفّر الغاز.. فأرادت أن تستخدم غاز أهلي، فقالت لها أمي، ووجهها عابس:
- أسرعي.. أريد أن أعمل (القطايف).
ولهذا لم تغلِ لي (الشّاي)، على غاز أهلي، لأنّ أمّي وأخواتي يَستعجِلْنَها.. عادت، وأرادت أن تغلي لي الشّاي على (المدفأة الكهربائية)، الموجودة داخل غرفتنا الصّغيرة، والخانقة، التي لا يدخل إليها الهواء، ولا الضّوء.
أكلت، وانتظرت طويلاً، حتّى تمّ غلي الشّاي، ولحظة أن أرادت زوجتي أن تصبّ لي كأساً من الإبريق.. سمعتُ صوت أخي (سامي)في الصّالون
، فقد كان في إجازة من العسكريّة.. فخرجتُ وناديتُ عليه، ليشاركني شرب الشّاي.
وحين دخل، ولأنَّ غرفتي شبه معتمة، حدث أن تعثرت قدمه (بالمدفأة الكهربائية)، المستلقية على أرضية الغرفة، فانقلب إبريقُ الشّاي عن المدفأة، وشربتها السّجادة، بدلاً عنّي وعن أخي (سامي).*
مصطفى الحاج حسين.
Peut être une illustration de 1 personne

يوسف خليل – السمكة التي ابتلعها البحر بقلم الكاتب حسين عبدالله جمعة

 يوسف خليل – السمكة التي ابتلعها البحر

بقلم حسين عبدالله جمعه
أراد أن يقول وداعًا قبل شهر من رحيله، لكننا لم نفهم…
وأحيانًا نموت قبل أن نموت، ولا ندرك ذلك إلا متأخرين.
في مملكة السويد، حيث كان النهار يطول حتى الحادية عشرة ليلًا، وجدت في صيد السمك عزاءً لي. علّمني رجل نازح من حلب أسرار هذه الهواية، فصارت هوسي الكبير. ومن بين ما تعلّمته: أن تمسك سمكة صغيرة جدًا وتستخدمها طُعمًا لسمكة أكبر.
وذات يوم، علّقت سمكة صغيرة على صنارتي، وانتظرت ساعات طويلة دون جدوى. وحين هممت بالعودة، رميت السمكة في الماء لتسبح حرة، فإذا بسمكة كبيرة تنقض عليها وتبتلعها فورًا. جلست مذهولًا على ضفاف البحيرة، وفكرت في صديقي يوسف: “الذي كُتب له أن يموت، سيموت، ولو في بروج مشيّدة.”
تلك السمكة الصغيرة بقيت حية أربع ساعات على صنارتي، وكأنها تعيش أجلًا إضافيًا قبل أن يبتلعها قدرها. وهكذا كان حال يوسف.
أعود إلى بعلبك، حين كنت أعمل صيدلانيًا في عيادة الأونروا. دخل زميله الأستاذ معين يستنجد بنا، وصديقي يوسف يتلوّى ألمًا في السيارة. أسرعنا نحوه، فقال الطبيب إنها الزائدة الدودية، وأكد أن انفجارها وشيك، وعلينا نقله فورًا.
كانت عملية بسيطة في العادة. طمأنته بأنني سأزوره بعد عملي، وذهبت لترتيب شؤوني. لكن حين وصلت إلى المستشفى، وجدت زوجته مضطربة، تخبرني أن وضعه يزداد سوءًا بعد العملية، وضغطه هبط إلى ٤ على ٢.
دخلت إليه، كان العرق يغطيه كالمطر، سريره مبلل من رأسه حتى قدميه. نظر إليّ وقال جملة لم تفارقني أبدًا:
“بدي أطلع من حالي.”
منذ تلك اللحظة وأنا أحمل هذه الكلمات كحمل ثقيل على صدري لثلاثة عقود.
اكتشفنا أن العملية الأولى أُجريت خطأً. لم تكن زائدة دودية، بل قرحة معوية متفجرة. أعادوه فورًا إلى غرفة العمليات بعد أن وقّعت أوراق رفع المسؤولية مع زوجته، وأنا في العشرينات، مذهول لا أفكر سوى بإنقاذه.
العملية الثانية كانت شاقة، بطنه مليء بالتهابات وعصارة المعدة. بأعجوبة خرج منها حيًا، وبقي عشرين يومًا يعاني تنظيف الجراح واستخراج القيح يوميًا.
في اليوم الثالث والعشرين، وقبل أن يشفى، قرر العودة لتلاميذه. قاد سيارته نحو تمنين، لكن القدر كان له بالمرصاد. قرب مستشفى العبدالله في رياق، اصطدم محامٍ من زحلة بسياره يوسف. ومات يوسف على الفور… كما ابتُلعت السمكة الصغيرة بعد ساعات من صيدها.
رحل يوسف، تاركًا ابنتين، ربى وبتول، كزهرتين نقيّتين، واظبت زوجته سلام على تربيتهما أجمل تربية، تحفظان القرآن وترتلانه. كبرت الطفلتان وتزوجتا وصارتا أمّهات، فيما واصلت سلام مسيرتها مناضلة، معلمة ومربية في مخيم الجليل، تحفظ النساء القرآن وتغرس فيهن الإيمان. ثم جمعتها الحياة مجددًا بأخ المرحوم يوسف، الأستاذ فادي، لتبني معه أسرة جديدة، صافية كقلبيهما وفادي الذي كان مثالا للرجوله والتضحية والوفاء والاب الصالح لبتول وربى مثل اولاده تماما.
يوسف لم يكن رجلًا عاديًا. كان عاشقًا للعلم والدين، سافر إلى دمشق ليحضر دروس العلامة الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي في مسجد تنكز، كل اثنين وخميس أثناء دراسته الرياضيات في جامعه دمشق. لم يكن يدري أن شيخه سيُستشهد بعد سنوات بانفجار دموي في دمشق. وكأن يوسف كان دائمًا يعرف أن الطريق قصير، وأن النهاية تسبقنا أحيانًا.
أستعيد ضحكاته، نكاته، جلساتنا في دمشق. مرة قلت له: “شو رأيك نترك التدخين؟” فضحك وقال: “بدك تترك؟ اترك لحالك. أنا بدخن عن مبدأ.”
ومنذ أربعين عامًا، كلما اشتريت علبة سجائر جديدة، رددت جملته.
كانت غرفة صغيرة في مخيم الجليل تجمعنا. نحلم بالعودة، نغني أغاني فيروز على ضوء الشموع، نطيل المدّ في كلماتها لنضيف النكهة والمرح. من بين الأغاني التي لا تغيب عن ذاكرتي “عنبية”… كان يوسف يحتفظ بكتاب فيه كلمات الأغاني ونوتاتها، هدية من صديقة أيام الثانوية. لم نعرف العزف يومًا، لكننا كنا نغني وكأن الحياة ستبقى للأبد.
رحل يوسف. ترك لي حملاً من الذكريات أثقلني لعقود. حاولت الهرب منه، لكن جملته تطاردني:
“بدي أطلع من حالي.”
وها أنا اليوم، أكتب لأخفف هذا الحمل، لأقول لعائلته، لبناته، لأصدقائه: يوسف عاش معنا، وما زال يعيش فينا. كان كسمكة صغيرة تحدت الموت ساعات، لكنها رحلت في النهاية إلى بحر أوسع.
رحمك الله يا صديقي يوسف… أيها المضيء كالياسمين، أيها الحاضر في الغياب.
حسين عبدالله جمعة
سعدنايل - لبنان

نصوص هايكو بقلم الكاتبة ألفة كشك بوحديدة

 نصوص هايكو

١
أوراق الخريف
بعد السقوط يحتضنها
بلا مأوى
٢
أوراق متساقطة
بين الكناس و بلامأوى
لقاء
٣
أوراق الخريف
بلامأوى يتهيأ لاستقبال
البرد
٤
أوراق الخريف
الملجأ الوحيد لمشرد
و كلبه
ألفة كشك بوحديدة

خواطر بوهالي البقاء لله بقلم محمد لمراحلي

 خواطر بوهالي

البقاء لله
مال الحال غيم ف البستان
عم الهم ؤ كثرات الأحزان
الورد ذبال ف وسط الفدان
العساس اصرف المحصول
واتحكم ف لمكان
عايش مع الفقراء بالمجان
الحياة اتمكن منها الشيطان
ؤ فوق المنبر
الامام ايقولها ب فصيح اللسان
خير الانام
اتكلم على هاد الزمان
لا من يرحم الجوعان
لا من يرحم العطشان
كلها يقول أ راسي
غادي مع الطوفان
اطوال البنيان
و اصبح كولشي امريض عيٌان
السما صافية
والشمس صبحان ف خبر كان
الرجوع للرحمان
يا هاد العربان
راه لقوي فيكم عريان
راه اكثر الطغيان
راه كل من عليها فان
دير ؤ بقي
والله كولشي بان
القدس تنادي
راه يحكمها جبان
والأرض قريب يترفع منها القرآن
كون اسبع
والباقي كلهم جردان
هذا كلامي
اضرب ليه لحساب مزيان
بقلم
محمد لمراحلي


انا وهي والهاتف لمحمد مطر

 انا وهي والهاتف

لمحمد مطر
اعجب للهاتف شاركني غرام المحبوبة
لكن. بالأمس خطف المخبوبة بالمره
تصحو من نومها مذعورةفتفتش عن
متسلل أتاها بكلام حلو على غره
تسود ايامي لو وجدت غزلااخفته و
كأني لوح خشبي لااعرف غزلا بالمره
فالهاتف مشكلة كبرى فكم شكت لو
تبسم شفتي قالت قل من هذي الهره
اقسم بالله لأرضيها. لكن تعرض عني
والبغل أرسل لها.قلباملفوفا في صره
فالشك بيننامتبادل فتشك أن تغازلني
هرةوانااشك أن غازلهاالشخص العره
لكن بالله ما أحببت ابدا إلاها وأقسم
لكن الهاتف قد ضر. كلاينا بمضره
إن كانت تبادلني.رسائل وتأخرت لبرهة
اشتاط غضبافلرب تحدث ذاك اباهره
يا ناس جنني وجننها الهاتف قد زرع
الفتنةبقلبينا وماسرالهاتف لي بمسره
إن سألت. لم تاخرت عني تلجلجت
وكأني متهم واصفر وجهي في صره
تسالني كأعتاهامحقق من دخل عندك
بالصفحة ومن علاو. منى ذاتا .الهره
اقسم بالله أني. لا اعرف فتقطب و
تجزيني ليلااسود اعيذكم بالله شره
أرسل قبلاتي فترفضهافاهم انا الآخر
متهمالكن لاتنسى وتعيدسؤالي والكره
والليل يمضي وماقلت لها كلمة عشق
والسبب والهاتف ومنى وأبو طره
محمد مطر